أراد «بلهفا» فحذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها ، فكذلك هاهنا : حذف الواو من «ذو» اجتزاء بالضمة عنها ، وصيّرا كلمة واحدة ، وإذا كانا مركبتين من من وذو [١٧٠] التي بمعنى الذي ؛ فالذي اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد ، والصلة لا تخلو : إما أن تكون من مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل ، فإذا قلت : «ما رأيته مذ يومان» أو «منذ ليلتان» فالتقدير فيه : ما رأيته من الذي هو يومان ، فحذف «هو» الذي هو المبتدأ ، وبقي الخبر الذي هو يومان ، وحذف المبتدأ من الاسم الموصول جائز كقولك : «الذي أخوك زيد» أي : الذي هو أخوك زيد ، والذي يدل على جوازه قولهم : «ما أنا بالذي قائل لك شيئا» أي : ما أنا بالذي أنا (١) قائل لك شيئا ، وهذا كثير في كلامهم ، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضا فهو مخفوض بمن ؛ ولهذا إذا ظهرت النون في منذ كان الاختيار الخفض ، وإذا لم تظهر كان الاختيار الرفع.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مرفوع ما بعدهما لأنه خبر عنهما ، وذلك لأن مذ ومنذ معناهما الأمد ، ألا ترى أن التقدير في قولك : «ما رأيته مذ يومان ، ومنذ ليلتان» أي : أمد انقطاع الرؤية يومان ، وأمد انقطاع الرؤية ليلتان ، والأمد في موضع رفع بالابتداء ؛ فكذلك ما قام مقامه ، وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب أن يكون ما بعدهما خبرا عنهما ، وإنما بنيا لتضمنهما معنى من وإلى ، ألا ترى أنك إذا قلت : «ما رأيته مذ يومان ، ومنذ ليلتان» كان معناه : ما رأيته من أول هذا الوقت إلى آخره ، وبنيت مذ على السكون لأنه الأصل في البناء ، وبنيت منذ على الضم لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم ؛ لأن من كلامهم أن يتبعوا الضم الضم ، كما قالوا : «ردّ يا فتى» ، والشواهد على ذلك كثيرة جدا ، وقد ذكرنا ذلك في مواضعه ؛ فلا يفتقر إلى ذكره هاهنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنهما مركبتان من من وإذ» قلنا : لا نسلم ، وأيّ دليل يدل على ذلك؟ وهل يمكن الوقوف عليه إلا بوحي أو تنزيل؟ وليس إلى ذلك سبيل!.
______________________________________________________
بهذا البيت قوله «بلهف» فإن أصل الكلام : بقولي يا لهفا ، على أن اللهف مضاف إلى ياء المتكلم ثم قلبت الكسرة التي قبل ياء المتكلم فتحة وقلبت الياء ألفا ، ثم حذف هذه الألف المنقلبة عن ياء المتكلم مجتزئا بالفتحة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها ، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.
__________________
(١) لو جعل تقديره «ما أنا بالذي هو قائل لك شيئا» لكان أحسن ، والمثال يروى في كتب النحاة «ما أنا بالذي قائل لك سوءا» وانظر ص ٣٢٤ الآتية.