فأعمل الفعل الأول ، ولو أعمل الثاني لنصب «قليلا» وذلك لم يروه أحد ، وقال رجل من بني أسد :
[٤٠] [٤٤]فردّ على الفؤاد هوى عميدا |
|
وسوئل لو يبين لنا السّؤالا |
______________________________________________________
ومثلهما قول الحماسي أيضا ، وهو قريط بن أنيف أحد بني العنبر :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي |
|
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا |
ثم قال بعد ذلك :
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد |
|
ليسوا من الشر في شيء وإن هاهنا |
وذلك أن معنى هذا البيت الأخير : لكنني لست من مازن ، ونظير هذا قول الله تعالى : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) ومن هنا تعلم أن قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي : إن «لو» لا يدل على امتناع شرط ولا جوابه ولكنه يدل على التعليق في الماضي ـ كلام غير مستقيم ، والاستشهاد بالبيت في قوله «كفاني ولم أطلب قليل من المال» فإن المؤلف نقل عن الكوفيين أنهم زعموا أن هذا البيت من باب التنازع لتقدم فعلين على اسم واحد ، وقد أعمل الشاعر أول الفعلين ـ وهو قوله «كفاني» ـ في الاسم المتأخر فرفعه به ، والدليل على ذلك أنه لو أعمل الثاني وهو أطلب لنصب الاسم به ؛ لأنه يطلب مفعولا ، وهذا الكلام غير صحيح ؛ لأن شرط التنازع أن يكون كل واحد من العاملين المتقدمين طالبا للمعمول مع صحة المعنى على فرض عمل أيهما فيه ، وفي هذا البيت لا يتم ذلك ؛ فإنك لو قلت : لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب ذلك القليل ، لكان كلاما متناقضا لا محصول له ، وإنما يتم معنى بيت امرىء القيس إذا قدرت لقوله «ولم أطلب» مفعولا يدل عليه البيت بعده ، وتقديره «ولم أطلب الملك» وإذا انحل البيت إلى قولك : ولو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك ، كان كلاما صحيحا مقبولا ، ولم أجد من المؤلفين من بين ذلك بيانا شافيا كافيا كابن هشام في كتابه شرح قطر الندى ، فارجع إليه إن شئت.
[٤٠] هذان البيتان من كلام المرار الأسدي ، وهما من شواهد سيبويه (١ / ٤٠) والهوى : العشق ، وعميد : أي فادح يبهظ صاحبه ويدنفه ويسقمه ، فعيل بمعنى فاعل ، وأصله قولهم «عمده المرض» أي أضناه وأوجعه ، و «نغنى» مضارع «غنى بالمكان» من مثال رضي ؛ أي أقام فيه وتوطنه ، ومنه سمي منزل القوم ومحل إقامتهم المغنى ، والخرد ـ بضم الخاء والراء جميعا ـ جمع خريدة ، وهي المرأة الحيية الطويلة السكوت ، أو هي البكر التي لم تمسس ، والخدال ـ بكسر الخاء ـ جمع خدلة ـ بفتح فسكون ـ وهي الغليظة الساق المستديرتها ، والاستشهاد بالبيتين في قوله «ونرى يقتدننا الخرد الخدالا» حيث كانت هذه العبارة من باب التنازع لتقدم فعلين هما نرى ويقتاد ، وتأخر معمول هو الخرد الخدال ، وقد أعمل الشاعر الفعل الأول في هذا المعمول بدليل أنه نصبه وأتى بضميره معمولا للفعل الثاني وهو نون النسوة ، ولو أنه أعمل الفعل الثاني لقال : نرى يقتادنا الخرد الخدال ، فيرفع المعمول على أنه فاعل ليقتاد ويحذف ضميره لكون الأول يطلب معمولا فضلة ، وهذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى ، وهو مذهب الكوفيين ، والحق أن هذه الشواهد كلها لا تدل على أكثر من أن إعمال العامل الأول جائز ، وهو ما لا يختلف فيه أحد ، فأما أولويته فلا.