فأعمل الثاني في هذا البيت في مكانين : أحدهما «وفّى» ولو أعمل الأول لقال : وفّاه ، والثاني «معنّى» ولو أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنّى ؛ فيقول «وعزة ممطول معنى هو غريمها» وتقديره : وعزة ممطول غريمها معنّى هو ؛ لأنه قد جرى على عزة ، وهو فعل الغريم ؛ فقد جرى على غير من هو له ، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له وجب إظهار الضمير فيه ، فلما لم يظهر الضمير دلّ على أنه قد أعمل الثاني ، إلا أنهم يقولون على هذا : يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم يظهر الضمير وذلك جائز عندنا ، وقد بيّنا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له مستقصى في موضعه.
وأما القياس فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول ، وليس في إعماله دون الأول نقض معنى ، فكان إعماله أولى ، ألا ترى أنهم قالوا : «خشنت بصدره وصدر زيد» فيختارون إعمال الباء في المعطوف ، ولا يختارون إعمال الفعل فيه ؛ لأنها أقرب إليه منه ؛ وليس في إعمالها نقض معنى ؛ فكان إعمالها أولى.
والذي يدل على أن للقرب أثرا أنه قد حملهم القرب والجوار حتى قالوا : «جحر ضبّ خرب» فأجروا خرب على ضبّ ، وهو في الحقيقة صفة للجحر ؛ لأن الضبّ لا يوصف بالخراب ؛ فها هنا أولى.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قول امرىء القيس :
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة |
|
كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال [٣٩] |
______________________________________________________
عليه أن يقول : وعزة ممطول هو معنى غريمها ، فيبرز الضمير المستكن في الخبر الأول لنفس السبب الذي احتج به على الكوفيين ، وهو أن الضمير المستكن في الخبر جار على غير مبتدئه ، وهذا الاحتجاج ملزم للبصريين لأنه مذهبهم وغير ملزم للكوفيين لأنهم لا يذهبون إليه كما قدمنا ، والوجه الثالث : ـ وهو مترتب على الوجهين السابقين ـ أن النحارير من العلماء كابن مالك رحمهالله ذهبوا إلى أن هذه العبارة ليست من باب التنازع أصلا ؛ لأنه لا يصح أن يكون الشاعر قد أعمل العامل الأول كما لا يصح أن يكون قد أعمل العامل الثاني ؛ لأنه لو أعمل أحدهما أيا كان لوجب على مذهب البصريين أن يبرز ضمير المعمول مع العامل الذي لم يعمله في لفظ المعمول لكونه جاريا على غير من هو له ، وعلى هذا يكون قوله «عزة» مبتدأ أول وقوله «غريمها» مبتدأ ثانيا ، وقوله «ممطول» خبر المبتدأ الثاني تقدم عليه ، وقوله «معنى» خبرا ثانيا للمبتدأ الثاني ، وجملة المبتدأ الثاني وخبريه في محل رفع خبر المبتدأ الأول ، ومن هذا تعلم أن الاسمين المتقدمين ـ وهما قوله «ممطول» وقوله «معنى» ـ ليسا عاملين لأنهما خبران ، والاسم المتأخر ـ وهو قوله «غريمها» ـ ليس معمولا ؛ لأنه مبتدأ ، والمبتدأ ليس معمولا لخبره إلا على قول ضعيف ، وكأن الشاعر قد قال : وعزة غريمها ممطول معنى.