فقد بعث إليكم الأنبياء واحدا بعد واحد ، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار ، ولكنّكم لم تأخذوا أقوالهم إلّا على محمل السخرية والاستهزاء (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (١).
ثمّ يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة ... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان ، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم ، فيقول تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله ، فهي بأجمعها تتخلّى عن امتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه ، ويا لها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لارتكاب المعاصي والذنوب.
ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء ، بسبب أنّ المجرمين حينما يرون بأنّهم سيصلون جهنّم جزاء أعمالهم ، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنّا منهم أنّه يمكن الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار ، إلّا أنّ الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة ، الأمر الذي يثير عجب أولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار والخلاص.
أمّا عن كيفية نطق تلك الأعضاء ، فثمّة تفسيرات واحتمالات عديدة :
١ ـ إنّ الله سبحانه وتعالى يجعل في كلّ واحد من تلك الأعضاء القدرة على التكلّم والشعور ، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق ، وما هو العجب في ذلك؟ فمن جعل في قطعة من اللحم المسمّاة «لسان» أو «مخ الإنسان» القدرة على النطق ، يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضا.
٢ ـ أنّ تلك الأعضاء لا تعطي الإدراك والشعور ، ولكن الله سبحانه وتعالى ينطقها ، وفي الحقيقة فإنّ تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام ، وانكشاف
__________________
(١) «اصلوها» من (صلا) أصل الصّلي إيقاد النار ، ويقال صلي بالنار وبكذا ، أي بلي بها واصطلى بها.