وقوله تعالى : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ما زال صادقا حتّى يومنا الحاضر ، فإعراض المسلمين عنه تسبّب في عدم ارتوائهم من هذا المنبع العذب الذي يطفح بالفيض الإلهي الكامل ، وإلى عدم التقدّم على الآخرين بالاستفادة من أنواره المشعّة ، وإلى عدم الرقي إلى قمم الفخر والشرف.
ثمّ تقول الآية ، مقدّمة لسرد قصّة خلق آدم ، والمكانة الرفيعة التي يحتلّها الإنسان الذي سجدت له كافّة الملائكة : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
أي لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي بخصوص خلق الإنسان ، حيث أنّ العلم يأتيني عن طريق الوحي ، والشيء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).
ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل البارئ عزوجل ، ولكنّ ذلك المقدار من الكلام الذي قالوه عند ما أخبرهم الباريّ عزوجل بأنّه سيجعل في الأرض خليفة ، فقالوا : أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم قائلا : إنّي أعلم ما لا تعلمون : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ، (١) مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية مجازية ، وقد كانت هذه مقدّمة للآيات التالية التي تتحدّث عن خلق آدم.
وثمّة احتمال وارد أيضا هو أنّ عبارة (بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) لها مفهوم أوسع يشمل حتّى الشيطان ، لأنّ الشيطان كان حينئذ في زمرة الملائكة ، ونتيجة تخاصمه مع البارئ عزوجل واعتراضه على إرادة الله طرد إلى الأبد من رحمة الله.
وقد وردت روايات متعدّدة في كتب الشيعة والسنّة بهذا الخصوص ، جاء في إحداها أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سأل أحد أصحابه : «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟
__________________
(١) البقرة ، ٣٠.