ولماذا يعمى الإنسان في الآخرة؟ لأنه قد ترك الانتفاع بالبصيرة في الدنيا ، ذلك لأنّ العمى في القرآن منه ما هو عمى البصر ومنه ما هو عمى البصيرة ، كما قال الراغب في قوله سبحانه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فالأوّل عمى البصيرة والثاني عمى البصر ، ولعلّنا نستطيع أن نعبر عن عمى البصيرة بعدم الوعي ، والذي يعمى عن النور لا بدّ أن يعمى عما يضيئه ذلك النور من الحقائق ، فهدى الله نور جاء ليضيء الحقائق ، ويبين السنن الحاكمة في الحياة ، وبديهي إنّ من يعرض ببصره وبصيرته عن رؤية ذلك الهدى ، سيعمى عن حقائق الحياة وسننها ، وسيصعب عليه تمييز الخير عن الشر ، وسيتجسد في الآخرة في عمى ظاهر هو عمى العين ، لذلك يقول تعالى
[١٢٥] (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً)
يبدو من الآية إنّ الرجل لم يكن من الكفار ، إنّما ممن نسي آيات الله بعد أن جاءته ، ولذلك احتار في سبب عماه وتساءل : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) وأضاف : (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) ولو كان كافرا إذا لم ينسب نفسه الى البصر ، وربنا حين أجابه ، ذكّره بأنه نسي آيات الله ، ولم يقل أنه لم يؤمن بها ، هكذا جاءت النصوص تفسر الآية بمن ترك الولاية الالهية أو الحج المفروض ، فقد روى أبو بصير قال : سمعت أبا عبد الله يقول : «من مات وهو صحيح موسر لم يحج ، فهو ممن قال الله عزّ وجل : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال قلت : سبحان الله ، أعمى! قال نعم أعماه الله عن طريق الحقّ» (١)
وحينما يسأل الضّال ربه عن سبب عماه يأتيه الجواب :
__________________
(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٤٠٦