الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع ، لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان ، وأصدر إرادته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام أن يوقفوا سير المعارف عند الحد الذي وصلت إليه ، لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة!! ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد ، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر ، وأمور عادية لا ترقي عقلا ولا تزيل جهلا ، وحاول أن يرفع من دعاء القنوت لفظ «ونخلع ونترك من يفجرك» لأن فيها لفظ خلع وقلبه ينخلع من هذه اللفظة ، ولأنه رأى مخلوعين قبله ، وأن يسقط من صحيح البخاري أحاديث الخلافة وأن تصادر حاشية ابن عابدين لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والاغتيال والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل ، وغيّر بعض الأسماء فلا يقال «مراد» بل «مرآة» ولا «عبد الحميد» بل «حامد أو حميد أو حمدي» لأن مراد اسم أخيه وعبد الحميد اسمه ، وأصبحت الصحف في أيامه أبواقا تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته.
وكثرت في أيامه مظاهر التكريم الخلابة من أوسمة ورتب ، وأخذت تباع في آخر عهده بالمزاد بيع العقار والدار ، ولها سماسرة ولها تجار ، يغوي بها السلطان من يريد تشريفه ، ويرفع بها من يهمه رفعه ، وأصبح بعض العقلاء في دار الملك والولايات يتظاهرون بالبلاهة ، أو ينقطعون عن الخدمة ويقنعون بالدون من العيش ، لأن سلطانهم لا يرضيه منهم إلا أن يكونوا على قدمه في كل ما يذهب إليه. ولقد نصح له بعض سفراء الدول في أواخر عهده بالكفّ من شرور بعض العمال ، لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها ، فقال لهم : وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي! أي أنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من عسف الأمة ما داموا يظهرون له الحب ، ويخدمون أغراضه على ما يحب.
كان عبد الحميد من الحسد بحيث يحسد خصيانه ، وأشق ما يبلغه أن يعلم