وكثر الخلاف بين والي طرابلس ووالي دمشق ووالي صيدا ووالي عكا ، والناس يقتلون بسبب هذا الاختلاف بينهم ، وحاكم دمشق يحاصر حاكم عكا ، والدولة ترضى عن هذا وتغضب على ذاك ، وتسلب ولاية زيد لتعطيها لعمرو ، تلاحظ في ذلك التوازن بين القوات ، وتتحاشى رجوع الذين يعصون أمرها من الولاة. وأعقل الولاة وأدهاهم من كانت تدوم ولايته سنتين وكانت الوظائف الحسابية في هذا الدور بيد الإسرائيليين والكتابية بيد المسيحيين ، وكان الولاة يصادرون بعض الإسرائيليين ويحبسونهم وربما يقتلونهم لاستحصال المال فيحتال هؤلاء لتمشية أمورهم ، وحدث أن معظم الحامية والموظفين في دمشق كانوا مرة من أهل بغداد والموصل وكركوك فغضب الوالي عليهم فأمر بترحيلهم فهلك بعضهم في الطرق.
كانت الشام تتخبّط بأيدي الولاة وأرباب الإقطاعات ، والدولة غير مستريحة في داخليتها وخارجيتها ، فاستقلت اليونان (١٨٣٠ م) بعد حرب هائلة فقدت فيها الدولة أسطولها وذهب قسم من الأسطول المصري ، وكان الأسطول اليوناني ضرب بيروت ١٢٤١ (١٨٢٥) ، وتوسعت اختصاصات إمارتي الأفلاق والبغدان (رومانيا) حتى بلغتا الاستقلال أو كادتا ، وفتحت روسيا لها طريق البحر الأسود ، وما زالت حال الدولة على ذلك حتى نشأت ثورة الإنكشارية في الإستانة (١٢٤٢) وكانت الدولة أخذت تنظم جندا جديدا على الأصول الحديثة ، فاستراحت بعض الشيء بعد إهلاك الإنكشارية ، وكذلك حال الأمة المسكينة التي قاست الأهوال من اعتداءاتهم ، وكان الفضل الأكبر في ذلك لمصلح الدولة السلطان محمود الثاني الذي أظهر من الثبات وقوة الإرادة في هذا الشأن ما لم يعرف به أجداده الذين قتلوا بأيدي الإنكشارية ، واستناموا لما يأمرون به مخافة أن تزهق أرواحهم. وقضى أيضا على أهل الطريقة البكداشية في الإستانة وما إليها مما ذكره له التاريخ بالإعجاب ، وعاب بعضهم عليه شدته وأعجب بأعماله معاصروه من الأعاظم. فقد قال سفير روسيا في الإستانة بعد سنتين من قرض جيش الإنكشارية : إن السلطان محمودا بقضائه على هذا الجند المختل الذي تصعب إدارته قد ظفر بنور من النبوغ