أهمية هذا الوصف :
إن" تنزيه الأبصار" وصف يسد فراغا في أوصاف الرحلة في القرن ١٩. ذلك أن رحالة هذا القرن تميّزوا بآراءهم الاصلاحية وبتنبيه العرب إلى ضرورة النهضة ، " وإيقاظ الغافلين من رجال السياسة وسائر الخواص والعوام ببيان ما ينبغي أن تكون عليه التصرفات الداخلية والخارجية وذكر ما تأكّد معرفته من أحوال الأمم الإفرنجية" (١). كان هؤلاء الرحالة" مثاليين" لم ينتبهوا إلى" فارق" جوهري يفصل بين عقلية العربي وعقلية الغربي ، ألا وهو" حبّ العمل". لقد توهّم الرحّالة مثل هذه المقولة : " أساس جميع ذلك (التمدّن) حسن الإمارة المتولّد منه الأمن ، المتولّد منه الأمل ، المتولّد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأروباوية بالعيان" (٢).
هذه المقولة تمثّل ـ في نظر السلطان برغش ـ الهرم مقلوبا : فقد كشف ـ على عكس المصلحين الآخرين ـ عن أخطر ما يؤدّي إلى ضعف الأمّة. إنّ" حسن الإمارة" لا يعني شيئا إذا كان المجتمع يكرّس الكسل ، ويأنف من العمل. وقد عبّر السلطان عن موقفه ـ هذا ـ في مناسبات عدّة. منها قوله ، وهو يخاطب الإنكليز : " أودّ لو أن أقدر [على أن] أرسل قوما من شعبي (...) ليتعلّموا من عملة معاملكم منافع الشغل والجهد" (٣).
لقد أدرك السلطان برغش ـ وهو يمارس دوره السياسي ـ أنّ" الحريّة" لا تصنع وحدها" النهضة" ، ثم" التقدم" ، ما لم يكن المجتمع متحفزّا للبذل والجهد ، طموحا لتحقيق المعالي ، ساعيا إلى العزّ والسؤدد.
هذا الطرح الواقعي تميّز به" تنزيه الأبصار". وهذا يشفع للعناية به. وليس هذا فحسب ، وإنّما هو وصف يتوفر على مظاهر أخرى من الأهمية ، مثل التعرّف على أسباب تقدّم
__________________
(١) خير الدين : أقوم : ص ٨٤. وهذا القول يلخص مفهوم النهضة عند عامة الإصلاحيّين الذين يقولون بالأخذ عن أوروبا أسباب النهضة.
(٢) خير الدين : أقوم : ص ٨٩.
(٣) تنزيه : ص ١٢٩ ، وقد توسعنا في بحث مفهوم النهضة عند السلطان في : " النهضة في نظر السلطان برغش من خلال وصف (تنزيه الأبصار) " مجلة : كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ، جامعة قطر ، سنة ٢٠٠٢.