وقال بشر الملك ابن المنجم :
يا رب سامية في الجو قمت بها |
|
أمدّ طرفي في أرض من الأفق |
حيث العشية في التمثيل معترك |
|
إذا رآها جبان مات للفرق |
للشمس غاربة للغرب ذاهبة |
|
بالنيل مصفرّة من هجمة الغسق |
وللهلال انعطاف كالسنان بدا |
|
من سورة الطعن ملقى في دم الشفق |
وقال القاضي الفاضل رحمهالله تعالى عليه : وأما النيل ، فقد ملأ البقاع ، وانتقل من الأصبع إلى الذراع ، فكأنما غار على الأرض ، فغطاها وأغار عليها فاستقعدها ، وما تخطاها فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه ، ولا مرغوب مرهوب إلا إياه.
ونيل مصر : مخالف في جريه لغالب الأنهار ، فإنه يجري من الجنوب إلى الشمال وغيره ، ليس كذلك إلا نهران فإنهما يجريان كما يجري النيل ، وهما نهر مكران بالسند ونهر الأريط (١) ، وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي في حماه إحدى مدائن الشام. وقد عاب ماء النيل قوم.
قال أبو بكر ابن وحشية (٢) في كتاب الفلاحة النبطية : وأما ماء النيل فمخرجه من جبال وراء بلاد السودان يقال لها جبال القمر ، وحلاوته وزيادته يدلان على موقعه من الشمس أنها أحرقته لا كل الإحراق ، بل أسخنته إسخانا طويلا لينا لا تزعجه الحرارة ، ولا تقوى عليه بحيث تبدّد أجزاءه الرطبة وتبقى أجزاءه الراسخة ، بل يعتدل عليه فصار ماؤه لذلك حلوا جدّا ، وصار كثرة شربه يعفن البدن ، ويحدث البثور ، والدماميل والقروح ، وصار أهل مصر ـ الشاربون منه ـ دمويين محتاجين إلى استفراغ الدم عن أبدانهم في كل مدّة قصيرة ، فمن كان عالما منهم بالطبيعة ، فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النيل ، وإلا فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وانتشار البثر والدماميل.
وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه قد صير له الطبخ قواما هو أثخن من قوام الماء ؛ فصار إذا خالط الطعام في الأبدان كثر فيها الفضول الردية العفنة ، فيحدث من ذلك ما ذكرناه. ودواء أهل مصر الذي يدفع عنهم ضرر ماء النيل ، إدمان شرب ربوب الفاكهة الحامضة القابضة ، وأخذ الأدوية المستفرغة للفضول ولو زادت حرارة الشمس على ماء النيل ، وطال طبخها له لصار مالحا بمنزلة ماء البحار الراكدة التي لا حركة لها إلا وقت
__________________
(١) نهر الأريط : ويسمى أيضا بالنهر المقلوب وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي ينبع من شرق لبنان ويتجه شمالا في سورية ويصب في البحر المتوسط في خليج اسكندرونة.
(٢) هو : أحمد بن علي بن قيس ، عالم بالكيمياء ، ينسب إليه بالاشتغال بالسحر والشعوذة. له مؤلفات عديدة. توفي بعد سنة ٢٩١ ه. أعلام ج ١ / ١٧٠.