قالوا : ومن المعتبر أيضا في أمر النيل أن تنظر اليوم الذي تفطر فيه النصارى اليعاقبة بمصر وما بقي من الشهر العربيّ فزد عليها أربعا وثلاثين ، فما بلغ أسقطه اثني عشر فإن بقي بعد ذلك الإسقاط من العدد زيادة على اثني عشر ، فهو زيادة النيل من الأذرع في تلك السنة ، مع الاثني عشر وإن بقي اثني عشر فهي سنة رديئة. قالوا : وإذا كان العاشر من الشهر العربيّ موافقا لشهر أبيب (١) ، والقمر في برج العقرب ، فإن كان مقارنا لقلب العقرب كان النيل مقصرا وإلا فهو جيد. قالوا : وينظر أوّل يوم من بؤنة (٢) فإن هبت الريح شمالا في بكرة النهار كان النيل عاليا ، وإن هبت وسط النهار فإنه متوسط ، وإن هبت آخر النهار كان نيلا قاصرا ، وإن لم تهب لم يطلع تلك السنة. وقيل : يعتبر هكذا أول خميس من بؤنة.
ومن المعتبر الذي جرّبته أنا سنين ، وأخبرني بعض شيوخنا : أنه جرّبه وأخبره به من جرّبه فصح أن ينظر أوّل يوم من مسرى كم مبلغ النيل ، فزد عليه ثمانية أذرع ، فما بلغ فهو زيادة النيل في تلك السنة ، ومما اشتهر عند أهل مصر وجربته أيضا ، فصح أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مرّ عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهما سواء ، وترفع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب لكل خرّوبة ذراع ، ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح ، وعجنه بماء النيل في إناء فخار ، وقد عمل من طين مرّ عليه النيل ، وتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل ، فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه ، كان النيل تامّا وافيا ، وإن وجده لم يختمر دل على قصور هذا النيل ، ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء ، فإن هبت طيابا فهو نيل كبير ، وإن هبت غير طياب فهو نيل مقصر ، لا سيما إن هبت مريسيا فإنه يكون نيلا غير كاف ، والشأن عندهم إنما هو في دلالة العلامات الثلاث على شيء واحد ، فأما إذا اختلف فالحكم لا يكاد يصح.
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية ، وذكر أصحاب التجارب : أنه إذا تقدّم فعمد إلى لوح وزرع عليه من كل زرع ونبات حتى إذا كانت الليلة الخامسة والعشرون من شهر تموز أحد شهور الروم وهي آخر أيام الباحور ، ثم وضع اللوح بارزا لطلوع الكواكب ، وغروبها لا يحول بينه وبين السماء شيء ، فإن كل ما لا يزكو في تلك السنة من الزروع يصبح أصفر ، وما يصلح ريعه منها يبقى أخضر ، وكذلك كانت القبط تفعل ذلك وقد جرّبت أنا على ما أفادنيه بعض الكتاب أنه إذا حصل مطر ولو قل في شهر بابة ينظر ما ذلك اليوم من الشهر القبطيّ فإنه يبلغ سعر الويبة القمح تلك السنة من الدراهم بعدد ما مضى من أيام شهر بابة. وأوّل ما جرّبت هذا أنه وقع مطر في بابة يوم الخميس الخامس عشر منها فبيعت الويبة (٣) تلك السنة بخمسة عشر درهما.
__________________
(١) أبيب : هو شهر تموز.
(٢) بؤنة : هو شهر حزيران.
(٣) الويبة : مكيال مقداره : اثنان وعشرون أو أربعة وعشرون مدّا.