من غير تأمّل كيفما وقعت يده عليه.
وقدّر الله سبحانه وتعالى أنّ السلطان كان من جملة صبيان مطبخه ، رجل مضحك يهزل بحضرته ، فيضحك منه ، ويعجب به ولا يعترض فيما يقول من السخف ، فجلس السلطان في بعض أيام العرض في البستان بقلعة الجبل ، وعنده الخاصة من الأمراء فدخل هذا المضحك ، وأخذ في السخرية على عادته ليضحك السلطان ، إلى أن قال : وجدت بعض أجناد الروك الناصريّ ، وهو راكب الإكديش ، وخرجه خلفه ورمحه فوق كتفه يقصد بهذا السخرية ، والطعن ، فغضب السلطان غضبا شديدا وصاح : خذوه وعرّوه ثيابه ، فتبادره الأعوان ، وجرّوه برجله ، ونزعوا ثيابه وربطوه في الساقية مع القواديس ، وأكثروا من ضرب الأبقار حتى أسرعت بدوران الساقية ، فصار المسكين ينقلب مع القواديس ويغطس في المادة تارة ويرقى أخرى ثم ينتكس ، والماء يمرّ عليه مقدار ساعة إلى أن انقطع حسه ، وأشرف على الهلاك ، واشتدّ رعب الأمراء لما رأوا من قوّة غضب السلطان.
ثم تقدّم الأمير طغاي الدوادار في طائفة من الأمراء الخاصكية ، واعتذروا عن هذا المسكين بأنه لم يرد إلا أن يضحك السلطان من كلامه ، ولم يقصد عيب الأجناد ، ولا انتقاصهم ونحو هذا من القول إلى أن أمر بحله ، فإذا ليس فيه حركة ، فسحب ورسم السلطان بأنه إن كان حيا لا يبيت بديار مصر ، فأخرج من وقته منفيا وحمد الله كل من الأمراء على ما وفقه من السكوت عن الكلام في حال العرض.
وما زال الأمر بمصر على ما رسمه الملك الناصر في هذا الروك إلى أن زالت دولة بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، فأبقي الأمر على ذلك إلا أنّ أشياء منه أخذت تتلاشى قليلا قليلا إلى أن كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة حيث حدث من أنواع التغيرات ، وتنوّع الظلم ما لم يخطر ببال أحد ، وسيمرّ بك حمل من ذلك عند ذكر أسباب خراب إقليم مصر إن شاء الله تعالى ، وكانت لأراضي مصر تقاو مخلدة في نواحيها وهي على قسمين : تقاو سلطانية ، وتقاو بلدية ، فالتقاوي السلطانية ، وضعها الملوك في النواحي ، وكان الأمير أو الجنديّ عند ما يستقرّ على الإقطاع يقبض ماله من التقاوي السلطانية ، فإذا خرج عنه طولب بها ، فلما كان الروك الناصري خلدت تقاوي كل ناحية بها ، وضبطت في الديوان السلطاني فبلغت جملتها مائة ألف وستين ألف أردب سوى التقاوي البلدية.