فقال عظيم الكهان ، ويقال له : إقليمون : إنّ أحلام الملوك لا تجري على محال لعظم أقدارهم ، وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة ، ولم أذكرها لأحد من الناس ، رأيت كأني قاعد مع الملك على وسط المنار الذي بأمسوس ، وكأنّ الفلك قد انحط من موضعه حتى قارب رؤوسنا ، وكان علينا كالقبة المحيطة بنا ، وكأن الملك قد رفع يديه نحو السماء ، وكواكبها قد خالطتها في صور شتى مختلفة الأشكال ، وكأنّ الناس قد جفلوا إلى قصر الملك ، وهم يستغيثون به ، وكأنّ الملك قد رفع يديه حتى بلغتا رأسه ، وأمرني أن أفعل كما فعل ، ونحن على وجل شديد ، إذ رأينا منها موضعا قد انفتح ، وخرج منه نور مضيء ، وطلعت علينا منه الشمس ، وكأنا استغثنا بالشمس ، فخاطبتنا أن الفلك سيعود إلى موضعه ، فانتبهت مرعوبا ، ثم نمت فرأيت كأن مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها والأصنام تهوي على رؤوسها ، وكأن أناسا نزولا من السماء بأيديهم مقام من حديد يضربون الناس بها ، فقلت لهم : ولم تفعلون بالناس كذا؟ قالوا : لأنهم كفروا بإلههم! قلت : فما بقي لهم من خلاص؟ قالوا : نعم ، من أراد الخلاص ، فليلحق بصاحب السفينة ، فانتبهت مرعوبا فقال الملك : خذوا الارتفاع للكواكب ، وانظروا هل من حادث؟ فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك ، وأخبروا بأمر الطوفان ، وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد تحرق العالم ، فقال الملك : انظروا هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا : نعم ، تأتي في الطوفان على أكثره ويلحقه خراب يقيم عدّة سنين. قال : فانظروا هل يعود عامرا كما كان؟ أو يبقى مغمورا بالماء دائما ؛ قالوا : بل تعود البلاد كما كانت وتعمر ، قال : ثم ما ذا؟ قالوا : يقصدها ملك يقتل أهلها ، ويغنم مالها ؛ قال : ثم ما ذا؟ قالوا : يقصدها قوم مشوّهون من ناحية جبل النيل ، ويملكون أكثرها ؛ قال : ثم ما ذا؟ قالوا : ينقطع نيلها وتخلو من أهلها ؛ فأمر عند ذلك : بعمل الأهرام ، وأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى مكان بعينه ، ثم يفيض إلى مواضع من أرض الغرب وأرض الصعيد ، وملأها طلسمات وعجائب وأموالا وأصناما ، وأجساد ملوكهم ، وأمر الكهان فزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء ، وزبر فيها وفي سقوفها وحيطانها وأسطواناتها جميع العلوم الغامضة التي يدّعيها أهل مصر ، وصوّر فيها صور الكواكب كلها ، وزبر عليها أسماء العقاقير ومنافعها ومضارها وعلم الطلسمات وعلم الحساب والهندسة ، وجميع علومهم مفسرا لمن يعرف كتابتهم ولغتهم.
ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظيمة ونشر البلاط الهائل ، واستخراج الرصاص من أرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان ، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة ، الشرقيّ والغربيّ والملوّن ، وكانت لهم صحائف ، وعليها كتابة ، إذا قطع الحجر وتمّ إحكامه وضعوا عليه تلك الصحائف وضربوه ، فيبعد بتلك الضربة قدر مائة سهم ، ثم يعاودون ذلك حتى يصل الحجر إلى الأهرام ، وكانوا يمدّون البلاطة ، ويجعلون في ثقب بوسطها قطبا من حديد قائما ، ثم يركبون عليها بلاطة أخرى مثقوبة الوسط ، ويدخلون