ثلاثون ذراعا وهندموه وحرّروه أياما ، وعمل حوله عشر هرج على كل هرجة منفاخان ، وفي كل هرجة : أحد عشر قنطارا نحاسا ، وأقلّ وأكثر والجميع مائة قنطار وكسر ، قسموها على الهرج وطرح فيها النار من العصر ، ونفخوا إلى الثانية من النهار ، وحضر الأفضل بكرة ، وجلس على كرسيّ ، فلما تهيأت الهرج ، ودارت أمر الأفضل بفتحها ، وقد وقف على كل هرجة رجل وأمروا بفتحها في لحظة ، ففتحت ، وسال النحاس كالماء إلى القالب ، وكان قد بقي فيه بعض النداوة ، فلما استقرّ به النحاس بحرارته تقعقع المكان الندي ، فلم تتمّ الحلقة ، ولما بردت وكشف عنها إذ هي تامة ما خلا المكان النديّ ، فضجر الأفضل وضاق صدره ، ورمي الصناع بكيس فيه ألف درهم ، وغضب وركب فلاطفه ابن قرقة ، وقال : مثل هذه الآلة العظيمة التي ما سمع قط بمثلها لو أعيد سبكها عشر مرّات حتى تصح ما كان كثيرا ، فقال له الأفضل : اهتم في إعادتها فسبكت وصحت ، ولم يحضر الأفضل في المرّة الثانية ، ففرح بصحتها وعملت ورفعت إلى سطح مسجد الفيلة ، وأحضر لها جميع صناع النحاس ، وعمل لها بركار خشب من السنديان ، وهو بركار عجيب ، وبنى في وسط الحلقة مسطبة حجارة منقبة لرجل البركار ، وهو قائم مثل عروس الطاحون ، وفيه ساعد مثل ناف الطاحون ، وقد لبس بالحديد والجميع سنديان جيد ، وطرف الساعد مهيأ لعدّة فنون ، تارة لتصحيح وجه الحلقة ، وتارة لتعديل الأجناب ، وتارة للخطوط والحزوز ، وأقام في التصحيح فيها ، وأخذ زوائدها بالمبارد مدّة طويلة ، وجماعة الصناع والمهندسين وأرباب هذا العلم حاضرون ، واستدعى لهم خيمة عظيمة ضربت على الجميع ، وعقد تحت الحلقة أقباء وثيقة ، وأرادوا قيامها على سطح مسجد الفيلة ، فلم يتهيأ لهم فإنهم وجدوا المشرق لأوّل بروز الشمس مسدودا ، فاتفقوا على نقلها إلى المسجد الجيوشيّ المجاور الأنطاكي المعروف أيضا بالرصد ، وكان الأفضل ، بناه ألطف من جامع الفيلة ، ولم يكمل.
فلما صار برسم الرصد كمل ، فحضر الأفضل ، في نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشيّ ، وقد أحضرت الصواري الطوال العظام ، والسرياقات والمنحاتات من الإسكندرية وغيرها ، وجمعت الأسطولية ورجال السودان ، وبعض أصحاب الركاب والجند حتى أدلوه وحملوه على العجل إلى مسجد الرصد الجيوشيّ ، وثاني يوم حضروا بأجمعهم حتى رفعوه إلى السطح وكملوه ، وأقاموا الحلقة وجعلوا تحت أكتافها عمودين من رخام سبكوهما بالرصاص من أسفلهما وأعلاهما ، حتى لا يرتخي ثقل النحاس ، وجعل في الوسط عمود رخام وبأعلاه قطب العضادة مسبوك بالنحاس الكثير لتدور عليه العضادة ، وعملت من نحاس ، فما تمارست ، ولا دارت فعملوها من خشب ساج وقطبها وأطرافها من نحاس صفائح ليخف الدوران ، ثم رصدوا بها الشمس بعد كلفة ، وكانت الحلقة ترخي الدرجة والدقائق كل وقت للثقل.
فعمل عمود من نحاس فوق عمود الرخام ليمسك رخوها ، وغلبوا بعد ذلك فكانت