وأما العامة والغوغاء ، فكانوا يقولون : أرادوا أن يخاطبوا زحل ، وأرادوا أن يعلموا الغيب ، وقال آخرون منهم : عمل هذا للسحر ، ونحو ذلك من الشناعات ، فلما قبض على المأمون ، بطل وأنكر الخليفة على عمله ، فلم يجسر أحد أن يذكره ، وأمر فكسر ، وحمل إلى المناخات ، وهرب المستخدمون ومن كان فيه من الخاص ، وكان فيه من المهندسين برسم خدمته وملازمته في كل يوم بحيث لا يتأخر منهم أحد (الشيخ أبو جعفر بن حسنداي والقاضي ابن أبي العيش ، والخطيب أبو الحسن عليّ بن سليمان بن أيوب ، والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندرانيّ المهندس ، وأبو محمد عبد الكريم الصقلي المهندس ، وغيرهم من الحساب والمنجمين ، كابن الحلبيّ وابن الهيثمي وأبي نصر تلميذ سهلون وابن دياب والقلعيّ ، وجماعة يحضرون كل يوم إلى ضحوة النهار) ، فيحضر صاحب الديوان ابن أبي الليث ، وكان ابن حسنداي ربما تأخر في بعض الأيام فإنه كان امرأ عظيما صاحب كبرياء وهيبة ، وفي كل يوم يبعث المأمون من يتفقد الجماعة ، ويطالعه بمن غاب منهم لأنه كان كثير التفقد للأمور كلها ، وله غمازون وأصحاب أخبار لا تنام ، ولا يكاد يفوته شيء من أحوال الخاصة والعامّة بمصر والقاهرة ، ومن يتحدّث.
وجعل في كل بلد من الأعمال من يأتيه بسائر أخبارها. وأنا أدركت هذا الموضع الذي يعرف اليوم : بالرصد ، حيث جامع الفيلة عامرا فيه عدّة مساكن ومساجد ، وبه أناس مقيمون دائما ، وقد خرب ما هناك ، وصار لا أنيس به وكان الملك الناصر : محمد بن قلاون ، قد أنشأ فيه سواقي لنقل الماء من أماكن قد حفر لها خليج من البحر ، بجوار رباط الآثار النبوية ، فإذا صار الماء في سفح هذا الجرف المسمى بالرصد نقل بسواق هناك ، قد أنشئت إلى أن يصير إلى القلعة ، فمات ولم يكمل ما أراده من ذلك ، كما ذكر في أخبار قلعة الجبل من هذا الكتاب ، وما زال موضع هذا الرصد منتزها لأهل مصر.
ويقال : إنّ المعز لدين الله معدّا لما قدم من بلاد المغرب إلى القاهرة لم يعجبه مكانها؟ وقال للقائد جوهر : فاتك بناء القاهرة على النيل ، فهلا كنت بنيتها على الجرف؟
يعني هذا المكان ، ويقال : إن اللحم علق بالقاهرة ، فتغير بعد يوم وليلة ، وعلق بقلعة الجبل ، فتغير بعد يومين وليلتين ، وعلق في موضع الرصد ، فلم يتغير ثلاثة أيام ولياليها لطيب هوائه ، ولله در القائل :
يا ليلة عاش سروري بها |
|
ومات من يحسدنا بالكمد |
وبت بالمعشوق في المشتهي |
|
وبات من يرقبنا بالرصد |