ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدوّ سلوكه إذا قدموا ، ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة ، وأنه كان دار علم ، وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، ويقال : إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعا وقطره خمسة أذرع ، وذكر بعضهم : أنّ طوله بقاعدتيه : اثنان وستون ذراعا وسدس ذراع ، وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع ، فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع ، وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعا ، وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف.
قال المسعوديّ : وفي الجانب الغربيّ من صعيد مصر ، جبل رخام عظيم ، كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها ، وكانوا يحملون ما عملوا بعد النقر ، فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية ، ومنها حجارة الطواحين ، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين ، ومنها العمد التي بالإسكندرية ، والعمود بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله ، وقد رأيت في جبل أسوان ، أخا هذا العمود ، وقد هندس ونقر ولم يصل من الجبل ، ولم يحمل ما ظهر منه ، وإنما كانوا ينتظرون به أن يفصل من الجبل ، ثم يحمل إلى حيث يريد القوم ، انتهى.
وكان بالإسكندرية من العمد العظام ، وأنواع الحجارة والرخام الذي لا تقلّ القطعة منه ، إلا بألوف من الناس ، وقد علقت بين السماء والأرض على فوق المائة ذراع ، وفوق رؤوس أساطين دائر الأسطوانة ما بين الخمسة عشر ذراعا إلى العشرين ذراعا ، والحجر فوقه عشرة أذرع في عشرة أذرع ، في سمك عشرة أذرع بغرائب الألوان.
وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا نظير له في معمور الأرض على ربوة عظيمة ، بإزاء باب البلد طوله خمسمائة ذراع ، وعرضه على النصف من ذلك ، وبابه من أعظم بناء وأتقنه ، كل عضادة منه حجر واحد ، وعتبته حجر واحد ، وكان فيه نحو مائة أسطوانة وبإزائه أسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها ، غلظها ستة وثلاثون شبرا ، وعلوها بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر ، وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أنه كان فوق ذلك بناء ، وتحتها قاعدة حجر أحمر محكم الصناعة ، عرض كل ضلع منه عشرون شبرا في ارتفاع ثمانية أشبار ، والأسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض ، فإذا اشتدّت الرياح رأيتها تتحرّك ، وربما وضع تحتها الحجارة ، فطحنتها لشدّة حركتها ، وكانت هذه الأسطوانة إحدى عجائب الدنيا ، وقد زعم قوم أنها مما عمله الجنّ لسليمان بن داود عليهماالسلام ، كما هي عادتهم في نسبة كل ما يستعظمون عمله إلى أنه من صنيع الجنّ ، وليس كذلك ، بل كانت مما عمله القدماء من أهل مصر.
وكان في وسطه ، قبة ومن حولها أساطين ، وعلى الجميع قبة من حجر واحد رخام