وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوّكم ، فإنّ الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة (١) نفر ، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس ، وحضهم على قتال عدوّهم ، ورغبهم في الصبر والنية ، وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد ، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة ، فإنها ساعة تنزل الرحمة ، ووقت الإجابة وليعجّ الناس إلى الله ، ويسألوه النصر على عدوّهم ، فلما أتى عمرو بن العاص رضياللهعنه الكتاب ، جمع الناس وقرأ عليهم كتاب عمر رضياللهعنه ، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس ، وأمر الناس أن يتطهروا ، ويصلوا ركعتين ، ثم يرغبوا إلى الله تعالى ويسألوه النصر ، ففعلوا ، ففتح الله عليهم.
ويقال : إنّ عمرو بن العاص استشار مسلمة ، فقال : أشر عليّ في قتال هؤلاء ، فقال له مسلمة : أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتعقد له على الناس ، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه ، فقال عمرو : من ذلك؟ قال : عبادة بن الصامت ، فدعاه عمرو فأتاه وهو راكب على فرسه ، فلما دنا منه أراد النزول ، فقال له عمرو : عزمت عليك إن نزلت ناولني سنان رمحك ، فناوله إياه ، فنزع عمرو عمامته عن رأسه ، وعقد له ، وولاه قتال الروم ، فتقدّم عبادة مكانه ، فصادف الروم وقاتلهم ، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.
وكان حصار الإسكندرية بعد موت هرقل ، تسعة أشهر وخمسة أشهر قبل ذلك ، وفتحت يوم الجمعة لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين ، وقال أبو عمرو الكندي : وحاصر عمرو الإسكندرية ثلاثة أشهر ، ثم فتحها عنوة وهو الفتح الأوّل ، ويقال : بل فتحها عمرو لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين.
قال القضاعيّ عن الليث : أقام عمرو بالإسكندرية في حصارها ، وفتحها ستة أشهر ، ثم انتقل إلى الفسطاط ، فاتخذها دارا في ذي القعدة.
وقال ابن عبد الحكم : فلما هزم الله تعالى الروم ، وفتح الإسكندرية ، هرب الروم في البرّ والبحر ، فخلف عمرو بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه ومضى ومن معه في طلب من هرب من الروم في البرّ ، فرجع من كان هرب من الروم في البحر إلى الإسكندرية ، فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلّا من هرب منهم ، وبلغ ذلك عمرا ، فكرّ راجعا ، ففتحها ، وأقام بها وكتب إلى عمر بن الخطاب رضياللهعنه : قد فتح علينا الإسكندرية بغير عقد ولا عهد ، فكتب إليه عمرو رضياللهعنه يقبح رأيه ، ويأمره أن لا يجاوزها. قال ابن لهيعة : وهو فتح
__________________
(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ١٣ : الأربعة هم : الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد.