الضياع تملك العبيد العامرين فيها ، فجعل المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ، ومن بها من أهل العلم والشيوخ ، وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم ، فاحتالوا على ملك النوبة بأن يقدّموا إلى من ابتيع منهم من النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم أن لا يقرّوا لملكهم بالعبودية ، وأن يقولوا سبيلنا معاشر النوبة ، سبيلكم مع ملككم ، يجب علينا طاعته ، وترك مخالفته فإن كنتم أنتم عبيدا لملككم وأموالكم له ، فنحن كذلك ، فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك ، أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه ، مما أوقفوهم عليه من هذا المعنى ، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت.
وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس ، وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين من وصفنا ، أحرار غير عبيد ، والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان وهي بلاد مريس. قال : وأما النوبة ، فافترقت فرقتين ، فرقة في شرق النيل وغربه ، فأناخت على شاطئه ، واتصلت ديارها بديار القبط من أرض صعيد مصر ، واتسعت مساكن النوبة على شاطىء النيل مصعدة ، ولحقوا بقريب من أعاليه ، وبنوا دار مملكة ، وهي مدينة عظيمة تدعى : دنقلة ، والفرقة الأخرى من النوبة ، يقال لها : علوة وبنوا مدينة عظيمة سموها : سرقته ، والبلد المتصل مملكته بأرض أسوان يعرف بمريس ، وإليه تضاف الريح المريسية ، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من أرض الصعيد ، ومدينة أسوان. قال : وفي الجانب الشرقيّ من صعيد مصر جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها. فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية ، ومنها حجارة الطواحين ، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين ، ومنها العمد التي بالإسكندرية. وفي ذي الحجة سنة أربع وأربعين وثلثمائة ، أغار ملك النوبة على أسوان ، وقتل جمعا من المسلمين ، فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل ، أو نوجور بن الإخشيد في محرّم سنة خمس وأربعين ، فساروا في البرّ والبحر ، وبعثوا بعدّة من النوبة أسروهم ، فضربت أعناقهم ، بعد ما أوقع بملك النوبة ، وسار الخازن ، حتى فتح مدينة أبريم وسبى أهلها ، وقدم إلى مصر في نصف جمادى الأولى سنة خمس وأربعين بمائة وخمسين أسيرا ، وعدّة رؤوس. وقال القاضي الفاضل : إنّ متحصل ثغر أسوان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بلغ ، خمسة وعشرين ألف دينار. وقال الكمال جعفر الأدفوي : وكان بأسوان ثمانون رسولا من رسل الشرع ، وتحصل من أسوان في سنة واحدة ، ثلاثون ألف أردب تمرا ، وأخبرنا من وقف على مكتوب كان فيه أربعون شريفا خاصة ، وأنّ مكتوبا آخر رأى فيه ستين شريفا دون من عداهم.
قال : ووقفت أنا ، على مكتوب فيه نحو من أربعين مؤرخ بما بعد العشرين وستمائة من الهجرة.