ومرّوا هاربين إلى القاهرة ، فأخذ منهم قطاع الطريق ، ما عليهم من الثياب ، وتركوهم عرايا ، فشنعت القالة على الأمير فخر الدين من كل أحد ، وعدّ جميع ما نزل بالمسلمين من البلاء بسبب هزيمته ، فإن دمياط كانت مشحونة بالمقاتلة والأزواد العظيمة والأسلحة وغيرها ، خوفا أن يصيبها في هذه المدّة ما أصابها في أيام الكامل ، فإنه ما أتى عليها ذاك إلا من قلّة الأقوات بها ، ومع ذلك امتنعت من الفرنج أكثر من سنة ، حتى فني أهلها كما تقدّم ، ولكن الله يفعل ما يريد.
ولما أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتحة ، ولا أحد يدفع عنها ، فظنوا أنّ ذلك مكيدة ، وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوّها فدخلوا إليها من غير مانع ولا مدافع ، واستولوا على ما بها من الأسلحة العظيمة ، وآلات الحرب ، والأقوات الخارجة عن الحدّ في الكثرة والأموال والأمتعة صفوا بغير كلفة ، فأصيب الإسلام والمسلمون ببلاء ، لو لا لطف الله لمحي اسم الإسلام ورسمه بالكلية ، وانزعج الناس في القاهرة ومصر انزعاجا عظيما ، لما نزل بالمسلمين مع شدّة مرض السلطان ، وعدم حركته ، وأما السلطان فإنه اشتدّ حنقه على الأمير فخر الدين ، وقال : أما قدرت أنت والعساكر أن تقفوا ساعة بين يدي الفرنج؟ وأقام عليه القيامة ، لكن الوقت لم يكن يسع غير الصبر والإغضاء ، وغضب على الكنانيين الذين كانوا بدمياط ووبخهم ، فقالوا : ما نعمل إذا كانت عساكر السلطان بأجمعهم وأمراؤه هربوا وأخربوا الزردخاناه ، كيف لا نهرب نحن؟ فأمر بشنقهم لكونهم خرجوا من دمياط بغير إذن ، وكانت عدّة من شنق من الأمراء الكنانية زيادة على خمسين أميرا في ساعة واحدة ، ومن جملتهم أمير جسيم ، له ابن جميل يسأل أن يشنق قبل ابنه ، فأمر السلطان أن يشنق ابنه قبله ، فشنق الابن ثم الأب ، ويقال : إنّ شنق هؤلاء كان بفتوى الفقهاء ، فخاف جماعة من الأمراء ، وهموا بالقيام على السلطان.
فأشار عليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بأنّ السلطان على خطة ، فإن مات فقد كفيتم أمره ، وإلا فهو بين أيديكم وأخذ السلطان في إصلاح سور المنصورة ، وانتقل إليها لخمس بقين من صفر ، وجعل الستائر على السور ، وقدمت الشواني إلى تجاه المنصورة ، وفيها العدد الكاملة وشرع العسكر في تجديد الأبنية هناك ، وقدم من العربان ، وأهل النواحي ومن المطوّعة خلق لا يحصى عددهم ، وأخذوا في الإغارة على الفرنج ، فملأ الفرنج أسوار مدينة دمياط بالمقاتلة والآلات ، فلما كان أوّل ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العربان ، ستة وثلاثون منهم : فارسان ، وفي خامس ربيع الآخر ، ورد منهم تسعة وثلاثون ، وفي سابعه ورد اثنان وعشرون أسيرا ، وفي سادس عشره ورد خمسة وأربعون أسيرا منهم : ثلاثة خيالة ، وفي ثامن عشر جمادى الأولى ورد خمسون أسيرا.
هذا ومرض السلطان يتزايد ، وقواه تتناقص حتى آيس الأطباء منه ، وفي ثالث عشر