لسماعه ، فارتجت القاهرة ومصر ، وظواهرهما بالبكاء والعويل ، وأيقن الناس باستيلاء الفرنج على البلاد لخلوّ الوقت من ملك يقوم بالأمر لكنهم لم يهنوا ، وخرجوا من القاهرة ومصر ، وسائر الأعمال ، فاجتمع عالم عظيم.
فلما كان يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان ، اقتتل المسلمون والفرنج ، فاستشهد العلائيّ أمير مجلس وجماعة ، ونزل الفرنج ، شارمساح (١) ، وفي يوم الاثنين سابعه نزلوا البرمون ، فاضطرب الناس وزلزلوا زلزالا شديدا لقربهم من العسكر ، وفي يوم الأحد ثالث عشره ، وصلوا تجاه المنصور ، وصار بينهم وبين المسلمين ، بحر أشموم ، وخندقوا عليهم وأداروا على خندقهم سورا ستروه بكثير من الستائر ، ونصبوا المجانيق ، ليرموا بها على المسلمين ، وصارت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل ، وشواني المسلمين بإزاء المنصورة ، والتحم القتال برّا وبحرا.
وفي سادس عشره نفر إلى المسلمين ، ستة خيالة ، أخبروا بمضايقة الفرنج ، وفي يوم عيد الفطر ، أسروا من الفرنج ، كند من أقارب الملك ، وأبلى عوامّ المسلمين في قتال الفرنج بلاء كبيرا ، وأنكوهم نكاية عظيمة ، وصاروا يقتلون منهم في كل وقت ، ويأسرون ويلقون أنفسهم في الماء ، ويمرّون فيه إلى الجانب الذي فيه الفرنج ، ويتحيلون في اختطاف الفرنج بكل حيلة ، ولا يهابون الموت ، حتى إن إنسانا قوّر بطيخة ، وحملها على رأسه ، وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج ، فظنه بعضهم بطيخة ، ونزل حتى يأخذها ، فخطفه وأتى به إلى المسلمين ، وفي يوم الأربعاء سابع شوّال ، أخذ المسلمون شونة للفرنج فيها : كندا ، ومائتا رجل ، وفي يوم الخميس النصف منه ركب الفرنج إلى برّ المسلمين واقتتلوا فقتل منهم أربعون فارسا ، وسير في عدّة إلى القاهرة بسبعة وستين أسيرا منهم : ثلاثة من أكابر الدوادارية ، وفي يوم الخميس ، ثاني عشرية أحرقت للفرنج مرمّة عظيمة في البحر ، واستظهر المسلمون عليهم ، وكان بحر أشموم فيه مخايض ، فدل بعض من لا دين له ممن يظهر الإسلام الفرنج عليها ، فركبوا سحر يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة أو رابعه ، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد هجموا على العسكر ، وكان الأمير فخر الدين قد عبر إلى الحمام ، فأتاه الصريخ بأنّ الفرنج قد هجموا على العسكر ، فركب دهشا غير معتدّ ، ولا متحفظ وساق ليأمر الأمراء والأجناد بالركوب في طائفة من مماليكه ، فلقيه عدّة من الفرنج الدوادارية (٢) ، وحملوا عليه ففرّ أصحابه ، وأتته طعنة في جنبه ، وأخذته السيوف من كل جانب حتى لحق بالله عزوجل ، وفي الحال غدت مماليكه في طائفة إلى داره ، وكسروا صناديقه وخزائنه ،
__________________
(١) شار مساح : قرية كبيرة كالمدينة من كورة الدقهلية بينها وبين دمياط خمسة فراسخ. معجم البلدان ج ٣ / ٣٠٨.
(٢) الداودار : أي صاحب الدواة. الأعشى ١ / ٤٦.