وقدم الريان ، فحملوا الهدايا إليه وفاكهة أكثرها الموز ، وحجارة سوداء إذا جعلت في الماء صارت بيضاء ، ثم سار الملك على أمم السودان إلى مملكة الدمدام (١) الذين يأكلون الناس ، فخرجوا إليه عراة ، فهزمهم وظفر بهم ، ومرّ على البحر المظلم ، فغشيهم منه غمام ، فترجع شمالا حتى انتهى إلى تمثال من حجر أحمر يومئ بيده ارجعوا ، وعلى صدره مزبور ما ورائي أحد ، فسار إلى مدينة النحاس ، فلم يصل إليها ومضى إلى الوادي المظلم ، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة ، ولا يرون أحدا لشدّة ظلمته ، وسار إلى وادي الرمل ، فرأى على معبره أصناما عليها أسماء الملوك ، فأقام عليه صنما زبر عليه اسمه ، فلما أثبت الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود ، فرأى سباعا يزأر بعضها على بعض ، فحكم أنه لا مذهب له من ورائها ، فرجع وعدّى وادي الرمل ، ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه ، ودفعوا عن أنفسهم أذاها بالرقي وجازها إلى مدينة الحكماء ، وتعرف بمدينة الكند ، ففرّوا منه إلى جبل.
فأقام عليه أياما حتى كاد يهلك جيشه عطشا ، فنزل إليه من الجبل رجل من أفاضل الحكماء ، وقد لبس شعره جسده ، فقال للملك : أين تريد أيها المغرور الممدود له في الأجل المرزوق فوق الكفاية أتعبت نفسك ، وجيشك ألا اجترأت بما تملكه ، واتكلت على خالقك ، وربحت الراحة ، وتركت العناء والغرر بهذا الخلق؟ فعجب من قوله وسأله عن الماء ، فدله عليه ، وسأله عن موضعهم فقال : موضع لا يصل إليه أحد ولا بلغه قبلك أحد ، فقال : ما عيشك؟ قال : من أصول النبات نقنع به ، ويكفينا اليسير ، قال : فمن أين تشربون؟ قال : من الأمطار والثلوج ، قال : فلم هربتم منا؟ قال : زهادة في مخالطتكم وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه ، قال : فكيف بكم إذا حميت الشمس؟ قال : نأوي إلى غيران تحت هذا الجبل ، قال : فهل لكم في مال أخلفه لكم؟ قال : إنما يريد المال أهل الترف ، ونحن لا نستعمل منه شيئا استغنينا عنه بما قد اكتفينا به ، وعندنا منه ما لو رأيته لاحتقرت ما عندك ، قال : فأرنيه ، فانطلق بنفر من أصحابه إلى أرض في سفح جبلهم فيها قضبان ذهب ناتئة ، وأراهم واديا لهم في حافتيه حجارة زبرجد ، وفيروز فأمر نهراوش أصحابه أن يحملوا من كبار تلك الحجارة ، ففعلوا.
ورأى الحكيم جماعة الملك يصلون إلى صنم يحملونه معهم ، فسأل الملك : أن لا يقيم بأرضهم ، وخوّفه من عبادة الأصنام ، فودّعه وسار ، فلم يمرّ بأمّه إلا أثر فيها حتى بلغ النوبة ، فصالحهم على مال ، وأقام على دنقلة (٢) صنما ، وزبر عليه اسمه ومسيره ، وسار يريد مدينة منف ، فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقونه بالفرح والسرور والرياحين
__________________
(١) مملكة الدمدم : جنوبي بلاد التكرور وأهلها يشبهون التتر في تدوير وجوههم. الأعشى ج ٥ / ٣٢١.
(٢) دنقلة : وردت في معجم البلدان : دمقلة وبخط السكري : دنكلة. معجم البلدان ج ٢ / ٤٧٨.