وهان عليّ لما رأيته في تلك الحال ، وسولت لي نفسي قتله ، فلما قرب من الدار إذا أنا بسواد عظيم ، فقلت : ما هذا السواد فقيل : الخيل ، قوافي يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف عنان ، وكان موافاة الخيل الدار في وقت دخوله فأحد قوابها ، فدخل إليّ فلما نظر إليّ ، قال لترجمانه : أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إليّ ، فلما نظر إليّ وثبت له فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره ، وجعل يدفع ما والى الفسطاط برجله ويشوش الفرش ، فظننت أن ذلك شيئا يجلّونه أن يطئوا على مثله ، حتى انتهى إلى الفرش ، فقلت لترجمانه : سبحان الله لم لم يقعد على الموضع الذي قد وطّئ ، فقال : قل له : إني ملك ، وحق كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذا رفعه الله ، قال : ثم أقبل طويلا ينكت بإصبعه في الأرض ثم رفع رأسه ، فقال لي : كيف سلبتم هذا الملك ، وأخذ منكم وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم فقلت : جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا فسلبنا وقتلنا وطردنا ، فخرجت إليك مستجيرا بالله ثم بك ، قال : فلم كنتم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت : فعل ذلك عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا في ملكنا ، من غير رأينا ، قال : فلم كنتم تلبسون (١) الحرير والديباج ، وعلى دوابكم الذهب والفضة وقد حرم ذلك عليكم؟ قلت : عبيد وأتباع وأعاجم (٢) دخلوا في ملكنا ، قال : فلم كنتم أنتم بأعيانكم إذا خرجتم إلى نزهكم وصيدكم تقحمتم على القرى فكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به ، بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تدوسوا زروعكم فتفسدوها في طلب دراج قيمته نصف درهم ، أو عصفور قيمته لا شيء ، والفساد محرم عليكم في دينكم ، قلت : عبيد وأتباع. قال : لا ، ولكنكم استحللتم ما حرّم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهاكم ، فسلبكم الله العز ، وألبسكم الذل ، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد ، وإنّي أتخوف أن تنزل النقمة بك إذ كنت من الظلمة ، فيشملني معك ، فإن النقمة إذا نزلت عمت وشملت ، فأخرج بعد ثلاث ، فإني إن وجدتك بعدها أخذت جميع ما معك ، وقتلتك وقتلت جميع من معك ، ثم وثب فخرج ، فأقمت ثلاثا وخرجت إلى مصر ، فأخذني واليك ، فبعث بي إليك ، فها أنا ذا والموت أحب إليّ من الحياة ، قال : فهمّ أبو جعفر بإطلاقه ، فقال له إسماعيل بن علي : في عنقي بيعة له ، قال : فما ذا ترى؟ قال : ينزل في دار من دورنا ونجري عليه ما يجرى على مثله. قال : ففعل ذلك به ، فو الله ما أدري أمات في حبسه أم أطلقه المهدي.
وقد قيل إن الذي حكى هذه الحكاية عبد الله أخوه ، وعبيد الله قتلته النوبة ، وتزوج
__________________
(١) الأصل وم : تركبون النمور والديباج ، والمثبت عن الجليس الصالح.
(٢) ليست في الجليس الصالح.