المعروف ، (لَاصْطَفى) : أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولدا على سبيل التبني ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (١) ، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني ، والاصطفاء قوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) : أي من التي أنشأها واخترعها ؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا فقال : (سُبْحانَهُ) ، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري : يعني لو أراد اتخاذ الولد لا متنع ، ولم يصح لكونه محالا ، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم ، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه ، وقد فعل ذلك بالملائكة ، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنه أولاده جهلا منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، إلا أنكم لجهلكم به ، حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم ، فجعلتموهم بنات ، وكنتم كذابين كفارين مبالغين في الافتراء على الله وملائكته. انتهى. والذي يدل عليه تركيب لو وجوابها أنه كان يترتب اصطفاء الولد مما يخلق على تقديره اتخاذه ، لكنه لم يتخذه ، فلا يصطفيه. وأما ما ذكره الزمخشري من قوله يعني : لو أراد إلى آخره ، وقوله : بعد ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، فليس مفهوما من قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ).
ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر ، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق ، وتكوير الليل والنهار ، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد ، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما ، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة ، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير : تطويل منهما على الآخر ، فكأن الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس : يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك : يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري : وفيه أوجه : منها أن الليل والنهار خلفة ، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس ؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار ؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كرورا
__________________
(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٢.