المقتين الأول في الدنيا والآخرة هو قول مجاهد وقتادة وابن زيد والأكثرين ، وتقدم لنا أن منهم من قال في الآخرة ، وهو قول الحسن. قال الزمخشري : وعن الحسن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا : (لَمَقْتُ اللهِ). وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى : (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١) ، و (إِذْ تُدْعَوْنَ) تعليل. انتهى. وكان قوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ) تعليل من كلام الزمخشري. وقال قوم : إذ تدعون معمول ، لأذكر محذوفة ، ويتجه ذلك على أن يكون مقت الله إياهم في الآخرة ، على قول الحسن ، قيل لهم ذلك توبيخا وتقريعا وتنبيها على ما فاتهم من الإيمان والثواب. ويحتمل أن يكون قوله : من مقت أنفسكم ، أن كل واحد يمقت نفسه ، أو أن بعضكم يمقت بعضا ، كما قيل : إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر ، والرؤساء يمقتون الأتباع ، وقيل : يمقتون أنفسهم حين قال لهم الشيطان : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، والمقت أشد البغض ، وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فمعناه : الإنكار والزجر.
(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) : وجه اتصال هذه بما قبلها أنهم كانوا ينكرون البعث ، وعظم مقتهم أنفسهم هذا الإنكار ، فلما مقتوا أنفسهم ورأوا حزنا طويلا رجعوا إلى الإقرار بالبعث ، فأقروا أنه تعالى أماتهم اثنتين وأحياهم اثنتين تعظيما لقدرته وتوسلا إلى رضاه ، ثم أطمعوا أنفسهم بالاعتراف بالذنوب أن يردوا إلى الدنيا ، أي إن رجعنا إلى الدنيا ودعينا للإيمان بادرنا إليه. وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو مالك : موتهم كونهم ماء في الأصلاب ، ثم إحياؤهم في الدنيا ، ثم موتهم فيها ، ثم إحياؤهم يوم القيامة. وقال السدي : إحياؤهم في الدنيا ، ثم إماتتهم فيها ، ثم إحياؤهم في القبر لسؤال الملكين ، ثم إماتتهم فيه ، ثم إحياؤهم في الحشر. وقال ابن زيد : إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ، ثم إماتتهم بعد ، ثم إحياؤهم في الدنيا ، ثم إماتتهم ، ثم إحياؤهم ، فعلى هذا والذي قبله تكون ثلاثة إحياءات ، وهو خلاف القرآن. وقال محمد بن كعب : الكافر في الدنيا حي الجسد ، ميت القلب ، فاعتبرت الحالتان ، ثم إماتتهم حقيقة ، ثم إحياؤهم في البعث ، وتقدم الكلام في أول البقرة على الإماتتين والإحياءين في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (٢) الآية ، وكررنا ذلك هنا لبعد ما بين الموضعين. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يسمي خلقهم أمواتا إماتة؟ قلت : كما صح أن يقول : سبحان من
__________________
(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٥.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.