وقرأ الجمهور : (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام. وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول. وقال كعب ، ومحمد بن كعب ، وأبو العالية ، والكلبي : إن توليتم ، أي أمور الناس من الولاية ؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنيا للمفعول. وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن توليتم» ؛ بضم التاء والواو وكسر اللام ، وبها قرأ علي وأويس ، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل. وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات ، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم. وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم ؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال.
و (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم. ويدل على ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ). فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوبا إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين ، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم. هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا؟ وقرأ الجمهور : (تُقَطِّعُوا) ، بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو ، في رواية ، وسلام ، ويعقوب ، وأبان ، وعصمة : بالتخفيف ، مضارع قطع ؛ والحسن : وتقطعوا ، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر ، أي أرحامكم ، لأن تقطع لازم. (أُولئِكَ) إشارة إلى المرضى القلوب ، (فَأَصَمَّهُمْ) عن سماع الموعظة ، (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن طريق الهدى. وقال الزمخشري : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم إلطافه ، وخذلهم حتى عموا. انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وجاء التركيب : فأصمهم ، ولم يأت فأصم آذانهم ؛ وجاء : وأعمى أبصارهم ، ولم يأت وأعماهم. قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الأبصار ، فالعين لها مدخل في الرؤية ، والأذن لها مدخل في السمع. انتهى. ولهذا جاء : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) (١) ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ*) (٢) ، ولم يأت : وعلى آذانهم ، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان. وحين ذكر الأذن ، نسبت إليه الوقر ، وهو دون الصمم ، كما قال : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٣).
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٧.
(٢) سورة النحل : ١٦ / ٧٨.
(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٥.