ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه تعالى أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض ، وأتى سبح بلفظ الماضي ، ويسبح بلفظ المضارع ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وإن ذلك ديدن من في السموات والأرض. والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، فقيل : هو حقيقة في الجميع ، وقيل : فيمن يمكن التسبيح منهم ، وقيل : مجاز ، بمعنى : أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح. وقيل : التسبيح هنا الصلاة ، ففي الجماد بعيد ، وفي الكافر سجود ظله صلاته ، وفي المؤمن ذلك سائغ ، واللام في (لِلَّهِ) ، إما أن تكون بمنزلة اللام في : نصحت لزيد ، يقال : سبح الله ، كما يقال ؛ نصحت زيدا ، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول ؛ وإما أن تكون لام التعليل ، أي أحدث التسبيح لأجل الله ، أي لوجهه خالصا.
(يُحْيِي وَيُمِيتُ) : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما أخبر بأنه له الملك ، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء ، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة. وجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي هو يحيي ويميت. وأن يكون حالا ، وذو الحال الضمير في له ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور. (هُوَ الْأَوَّلُ) : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، (وَالْآخِرُ) : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء ، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. (وَالظَّاهِرُ) بالأدلة ونظر العقول في صفته ، (وَالْباطِنُ) لكونه غير مدرك بالحواس. وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية. وقيل : (الظَّاهِرُ) العالي على كل شيء ، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ؛ (وَالْباطِنُ) : الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه. وقال الزمخشري ؛ فإن قلت : فما معنى الواو؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين. فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن. جامع الظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس ؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من المطر والأموات وغير ذلك ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من