من سد سمعه ومنع بصره ، ثم كرر صفة دعائه بيانا وتوكيدا. لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ، ذكر عموم حالات الدعاء. و (كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) : يدل على تكرر الدعوات ، فلم يبين حالة دعائه أولا ، وظاهرة أن يكون دعاؤه إسرارا ، لأنه يكون ألطف بهم. ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه ، فلما لم يجد له الإسرار ، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهارا صلتا بالدعاء إلى الله لا يحاشي أحدا ، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار. قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. انتهى. وكثيرا كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد ، ولا نعلمه من كلام غيره ، وانتصب جهارا بدعوتهم ، وهو أحد نوعي الدعاء ، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى.
قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا : أي مجاهرا به ، أو مصدرا في موضع الحال ، أي مجاهرا. ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار ، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا ، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم ، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل ، كما قال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها ، نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (١) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٢) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣) الآية ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) (٤). قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا ، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها. وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم ، فبدأهم في وعده بالمطر ، ثم ثنى بالأموال والبنين. و (مِدْراراً) : من الدر ، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادرا ، فيشترك فيه المذكر والمؤنث. تقول : رجل محدامة ومطرابة ، وامرأة محدابة ومطرابة ، والسماء المطلة ، قيل : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله : إذا نزل السماء بأرض قوم البيت ، الرجاء بمعنى الخوف ، وبمعنى الأمل. فقال أبو عبيدة وغيره : (لا تَرْجُونَ) : لا تخافون ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان ، والكلام على هذا وعيد وتخويف. وقيل : لا تأملون له توقيرا : أي تعظيما. قال الزمخشري : والمعنى : ما
__________________
(١) سورة الصف : ٦١ / ١٣.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٩٦.
(٣) سورة المائدة : ٥ / ٦٦.
(٤) سورة الجن : ٧٢ / ١٦.