أحدها : أنها للتوكيد. فقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) توكيد لقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ، وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ثانيا تأكيد لقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أولا. والتوكيد في لسان العرب كثير جدا ، وحكوا من ذلك نظما ونثرا ما لا يكاد يحصر. وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار ، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبدا.
والثاني : أنه ليس للتوكيد ، واختلفوا. فقال الأخفش : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ، فزال التوكيد ، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير.
وقال أبو مسلم : ما في الأوليين بمعنى الذي ، والمقصود المعبود. وما في الأخريين مصدرية ، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين. وقال ابن عطية : لما كان قوله : (لا أَعْبُدُ) محتملا أن يراد به الآن ، ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه ، جاء البيان بقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أبدا وما حييت. ثم جاء قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدا ، كالذي كشف الغيب. فهذا كما قيل لنوح عليهالسلام : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١). أما أن هذا في معينين ، وقوم نوح عموا بذلك ، فهذا معنى الترديد الذي في السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته ، انتهى.
وقال الزمخشري : (لا أَعْبُدُ) ، أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : أي وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام؟ (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. فإن قلت : فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت ، انتهى. أما حصره في قوله : لأن لا لا تدخل ، وفي قوله : ما لا تدخل ،
__________________
(١) سورة هود : ١١ / ٣٦.