يقع طرفه عليّ ، فيجعلني ثالثا ، فتلطفت حتى خرجت ثم عدت إلى مكة ، فلبثت بها حينا ، ثم بلغني عن ملك من ملوك غسّان ، أنه من أتاه من قريش حباه وشرّفه ، فلم يمنعني ما شاهدته من النعمان أن توجهت حتى انتهيت إلى باب ذلك الملك ، فأمكث أياما لا أصل إليه ولا يؤذن لأحد عليه ، ثم إنه جلس جلوسا عاما ، فدخلت في جملة الناس ، فإذا هو جالس في صدر مجلسه ، وإذا في وسط داره أسطوانة طويلة ، واسعة الرأس ، فجعل يتأملها مليا ، ثم أقبل على جلسائه فقال لهم : أترون أنه لو أخذ رجلا شابا (١) ظاهر الدم ، حسن الجسم ، فذبح على رأسه هذه الاسطوانة ، أكان يسيل دمه حتى يبلغ الأرض؟ فقالوا : ما نرى ذلك إنها لطويلة ، فأمر برجل توسّمه من بين الناس ، وقد نظر إليه على النعت الذي نعته ، فأخذ وأصعد إلى أعلى الاسطوانة ، فذبح ، فسال دمه حتى ثلثيها وانحدر قليلا ، فقال : ما أراه بلغ الأرض ، فلقد كانت به أدمة ، ولعله لو كان أبيض اللون كان دمه أكثر ، ثم تأمّل الناس فلحظني بطرفه ، فظننت أنه سيأمر بي ، ثم أجال طرفه وغفل عني ، فتلطّفت حتى خرجت ، فعدت إلى مكة ، فمكثت بها حينا ثم توجهت في تجارة إلى الشام في رهط من قريش ، فيهم : أبو سفيان بن حرب ، وكان مقصدنا غزة ، فلمّا أتيناها وجدنا أسواقها قد تصرّمت وبقيت بضائعنا ، فقيل لنا : لو أتيتم دمشق لأصبتم بها حاجتكم ، فانطلقنا إليها حتى أتيناها ، فتسوقنا وبعنا واشترينا ما يصلح لبلادنا ، وخرجنا نريد طريق بلادنا ، فلمّا سرنا غير بعيد عرضت لي حاجة ، فحللت إزاري ، فإذا فيه صرة ، ذكرتها حين رأيتها ، فيها شيء من الذهب ، كانت امرأة من نساء قومي دفعته إليّ ، وسألتني أن أبتاع لها به بزا ، أو ما أشبه ذلك ، فقلت لأصحابي : أنظروني بمكانكم إلى أن أنصرف إليكم ، فقد عرضت حاجة لا بدّ من العودة فيها إلى دمشق ، فأخبرتهم بأمر المرأة ، فقالوا : نحن نقيم عليك ، فلا تحبسنا ، فرجعت حتى أدخلها مساء ، فأتيت فندقا بها فنزلته لأبيت فيه ، وأصبح على حاجتي ، فإنّي لنائم أتاني رجل حسن الصورة مكتهل ، فحرّكني برجله ، ففتحت عيني ، فقال لي : من أين أنت؟ فقلت : أنا رجل غريب دخلت في حاجة ، فقال : انطلق معي إلى منزلي ، قال : فنهضت معه إلى منزله ، فأحسن ضيافتي ، وبتّ عنده خير مبيت.
فلما أخذت مضجعي قام يصلّي الليل كلّه حتى أدركه الصبح ، ثم أقبل عليّ فقال : لا تخرج إلى السوق حتّى أخرج معك ، فتقضي حاجتك ، قال : وكان من يخرج إلى الأسواق
__________________
(١) كذا بالأصل وم ، وفي «ز» والمختصر : رجل شاب.