المأنوسة لأبناء القبائل. لكن هذه القبائل سرعان ما أعادت تشكيل المجالات الجماعية لها (الجبانات) ، داخل الخطط الترابية ، كما ابتنت مساجدها الخاصّة حيث كان يلتقي الأشخاص المنتمون إلى العشيرة نفسها. ذلك أن المركز يوحّد ، في حين أن الخطط تحافظ على التنوع العشائري والقبلي للنسيج العربي. ومن الصعب في الحقيقة إحداث معارضة تامة بين المركز الإسلامي والحزام العربي القبلي ، لأن مساجد العشائر تكاثرت (١) ، بفضل ما بلغه التدين الفردي من تطور سريع. على أن الفكرة تفرض وجودها في البداية. ذلك أنه لم يكن في الأوّل لهذه الجموع العربية من الإسلام إلا الاسم : فهي لا تشبه في شيء أمة المدينة التي استوعبت الروح والتعاليم الإسلامية. لقد تشكل ضميرها الإسلامي في الحرب وارتبط ارتباطا وثيقا بهويتها العرقية العامة ، كما ارتبط أيضا بمركز القرار في المدينة. فتمخض عن ذلك تأكيد الصلاة كمجموعة من الحركات التوحيدية التي تتجمع بفضلها أمة المقاتلين. وترتب عن ذلك أيضا طابعها كفريضة مطلقة ، لا لسبب ديني وحسب ، بل كفعالية سياسية واجتماعية للإبقاء على لحمة شعب مشتّت في الأصل ، ولا سيما أنه استسلم للدعة نسبيا بعد وقعة القادسية. كان المركز موطنيا بفضل المسجد ، لأن الدين كان معاشا كظاهرة جماعية أكثر منه كجملة من المضمّنات الماورائية ، وكان الحكم يدفع به دفعا لكن الحكم كان سلطة تنظيم لا غير. إن انفصال المركز عن عالم السكن القبلي لا ينبغي فهمه بمعنى الحفاظ على سر من أسرار المعبد ، ذلك أنه لم يكن في خدمة المعبد طبقة من الكهان تسيطر على شعب خانع. بل كلّ ما حصل أن هيىء للمقاتلة مكان للاتصال إما في الصلاة وإما بالتجارة والمكان الذي نظم لهم فيه إطار وجودهم برضاهم. وبما أن المسجد هو ملك للجميع ، فقد كان مركزا أسمى ، ومكانا للالتقاء ، فتحتم أن يبتعد عن المجالات ذات الخصوصية المتمثلة في خطط القبائل.
لا شك أن تجاوزات لحرمة المركز قد وقعت. من ذلك إقطاعات منحت للأفراد ، ولم تمنح للقبائل أبدا. ولم يحدث ذلك في البداية قطعا ، كما كان يريد اليعقوبي أن يحملنا على الاعتقاد به (٢) ، ولم يفعل ذلك عمر يقينا ، لكن لعل بعض ولاته في نهاية خلافته قاموا بذلك بصورة استثنائية. لقد بنيت دور في المساحة المركزية وهو أمر ثابت أو يكاد ، ومما يزيد يقيننا بخصوص بعضها ، أنها وجدت فيما بعد داخل الأسواق. وقد أشير إلى دار الوليد بن عقبة (٣) ولعلها بنيت خلال ولايته [٢٥ ـ ٣٠ ه / ٦٤٥ ـ ٦٥٠] في خلافة عثمان. كما نجد
__________________
(١) Grabar ,op.cit.,p.٤٣.
(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١٨. لم يكن ذلك يكتسي صبغة عظيمة. ولم تزدد الظاهرة اتساعا إلّا في ولاية زياد : انظر لاحقا.
(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ و ٣٤٦. يمكن التساؤل إذا هي لا ترجع إلى عصر زياد.