بذله من جهد عظيم لتخيل الأمور وتجميعها وذلك لأنه حاول التوفيق بين هذه المصادر المتنوعة وتوحيد العصور ملحا مع هذا على العصر الأموي. ولنقتصر فيما يخصنا على القاعدة الصلبة الواضحة لرواية سيف ، تضاف إليها الاستفهامات والشكوك التي أحاطت بها والتي تبرر وضع أكثر من مخطط لمواقع القبائل ، على أن تتمّ مواجهتها بعد ذلك بالتغييرات الحاصلة.
قطائع العشائر والتقلبات الأولى
إن ما رواه سيف هو مخطط أساسي دام قرنين. لكن ما هي تفاصيله؟
لقد مر بنا أن هناك خططا كانت على شكل قطائع تفصل بينها سكك واسعة وتجمع بكل خطة قبيلة واحدة أو مجموعة متكونة من فرعين تابعين للقبيلة. وحدد تنظيم التخطيط الخطط وسلمها إلى أصحابها. هذا التنظيم من عمل السلطة ومستشاريها ، إذ لا يمكن مجاراة اليعقوبي حين يقول : «فاختطت كل قبيلة مع رئيسها» (١) عادة حول جبانة ما ، بصفتها نقطة مركزية للوجود القبلي ، وهي نقطة ماء أيضا كما يظهر. وعلى النقيض من ذلك ، لا بد أن تدخل رؤساء القبائل كان نشيطا ، لتهيئة الخطط من الداخل ، وتحديد مكان كل عشيرة ضمن المجموعة. وقد لعبت القرعة دورا في هذا الموضوع وكذلك تحكيم الرؤساء. لا شك أن الخطط الفرعية العشائرية هي التي أشار إليها النص باسم القطائع (٢) ، وفرضت السلطة أبعادها على شكلية واحدة فيما يبدو (باستثناء بني ضبّة ونجهل سبب ذلك). ومن الواضح أن الستين ذراعا المذكورة تخص العرض والأمر نفسه بالنسبة للسكك والمناهج والأزقة ، وقد صنف المؤلف القطائع في المرتبة نفسها (٣).
تتسع إذن قطيعة كل عشيرة إلى عرض ٤٦ ، ٣٢ مترا ، في حين أن طولها غير محدد ، وهي محاطة بنسق كامل من السكك والأزقة التي يتضاءل عرضها تدريجيا والتي تقسم كل طريدة قبيلة. ولنتابع مرة أخرى سيفا حيث يقول :
«فهذه مناهجها العظمى وبنوا مناهج دونها تحاذي (٤) هذه ثم تلاقيها ، وأخر تتبعها
__________________
(١) كتاب البلدان ، ص ٣١٠ : لم تجر الأمور على هذا النحو إلّا بعد أن سلمت السلطة الخطط.
(٢) لسان العرب ، ج ٨ ، ص ٣٨١ : يحدّد الشافعي الطابع الوقتي للقطائع ويضاهيها بالأسواق بحيث أنه عندما يغادر شخص الموقع ، يمكن لغيره أن يستقر بالمكان «كأبنية العرب وفساطيطهم فإذا انتجعوا لم يملكوا بها». القطيعة إذن هبة من السلطة لكن مرتبطة بالاقامة ، ويمكن أن تصير دائمة في واقع الأمر. راجع أيضا الزبيدي ، تاج العروس ، ج ٥ ، ص ٤٧٤ وما بعدها.
(٣) سيف في تاريخ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤.
(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥. هذه كلمة جوهرية اطلاقا ، وهي تتحكم في فهم نسق الطرق وبنية الخطط القبلية.