عفوية ، وفي الحالة الثانية نكون إزاء مدينة منشأة. ذلك أن الأمصار بصفتها مدنا للحاميات في بداية الأمر ، لم تكن «مبنية حسب تصميم مسبق». كانت «مستعمرات عسكرية» تتميز بسرعة نموها الأول ، ولعل ذلك النمو تم «دون شعور واقعي بالعناصر الشكلية للتخطيط» (إن العبارة الإنجليزية المطابقة City ـ planning تكتسي فيما يتعلق بالكوفة ، وضوحا كبيرا لتضمنها فكرة التخطيط). ويضيف أن الاستقرار الدائم ما لبث أن تحقق ، واستبدلت الأسواق بطرق التموين ، كما نشأ تنظيم صناعي ، لكن كل ذلك تم على صورة المدينة الخارجية التي تحيط شيئا فشيئا بالمعسكر الأصلي وتغمره. يبدأ الزخم من المركز وتقع دفعة من الداخل نحو الخارج. إن نمو المصر يظهر هكذا بمثابة السلسلة من «المراحل المتعددة للتولد العفوي» ، وليس نتيجة «تنفيذ لمخطط منتظم» (١). وهكذا فإن هذا التصور قد اقتبس الكثير من أفكار پوتي ، إذ يتضمن الانقسام بين المعسكر والمدينة اللاحقة ، وفقدان كل تصميم سابق ، ونعت هذه المدينة اللاحقة بأنها «عفوية» ، حيث تكون برزت وراء النواة الأولى بحركتها الذاتية ، وبكيفية فوضوية ، كما أنها لا تخضع للمراقبة. لكن الجديد عند لاسنر أنه يلح على اتجاه الحركة التي تكون هنا داخلية ـ خارجية ، فيجعل منها تحولا للمركز. لماذا؟ لأنه يريد قلب الحركة ذاتها فيما يخص المدينة المستديرة ، فتصبح خارجية ـ داخلية ، تنطلق من الأرباض المؤقتة التي أقامها جيش البنائين في اتجاه المدينة المستديرة ذاتها. ويرى لاسنر أن جمهور العمال المشتغلين في بناء المدينة الجديدة قد أفرزوا مدينتهم الخارجية قبل الانتهاء فعلا من المدينة المستديرة ، وتحت أسوارها بالذات. كيف ذلك؟ في شكل مركب مدني قيد التوسع ، بمقابره ومساجده ومؤسساته المستقلة (٢). وبذلك يكون قد سبق الكرخ ، وعلينا أن نقول انه الكرخ الأول ، مدينة السلام. وتصطدم هذه النظرة بشهادات المصادر كما سنرى ذلك ، وسلسلة التواريخ التي تقترحها المصادر نفسها. لكن المهم الآن أن نؤكد هذا التعارض ، الذي أبرزه المؤلف ، بين تكوّن الكوفة وتكوّن بغداد ، حين قلب اتجاه النمو الأول (٣). وهنا يكمن التضارب ، إضافة إلى أن التصور الذي اقترحه لنشأة الكوفة كان خاطئا. ذلك أن هذا المؤلف جعل من المدينة المستديرة مدينة منشأة بصفة ممتازة من جهة ، قد تمّ تصميمها بصرامة مسبقا ، وكأنها قدت في قالب أسقط على الأرض كما قال الجاحظ ، وهو يجعل منها من جهة أخرى امتدادا لمدينة عفوية سابقة للمدينة الأولى. وإذا ما صدقنا لاسنر فإن مدينة المنصور تفقد كثيرا من مظهرها الإرادي ولا سيما أنه وصفها
__________________
(١) Ibid.,p.٣٠١.
(٢) Ibid.,pp.٩٣١ ـ ٠٤١.
(٣) Ibid.,pp.٨٣١ ـ ٩٣١.