مجال لطرح قضية العفوية لا حسب تصوّر پوتي ، ولا كذلك لا سنر ، وهما المشتركان في خلفية فكرية تقرّ بالفصل الجذري بين مجرد معسكر مصطنع «إرادي» بدوي النمط وغير منظم لكونه لم يصمم مسبقا ، وبين مدينة تطورت من ذاتها بعد ذلك بمفعول المحيط ، فكانت واقعا آخر. ذلك أن ما عايناه انطلاقا من تحليل دقيق للمصادر شيء آخر تماما. ظهرت عملية لتخطيط المجال ، وتوزيع الكتل المجالية بين مركز سياسي ديني وبين حزام للسكن ، وتهيئة مرتبة لمناهج الاتصال. ذلك كان التخطيط الذي جاء بعد عملية التمصير مباشرة ، والتمصير مفهوم يستند إلى مشروع إقرار مجموعة بشرية في تجمع سكني مهما كان شكله. ولا نرى هنا ما يشبه المعسكر (١) على طريقة البارث أو الرومان أو الساسانيين أو حتى العرب لمجرّد أن تعمير الكوفة تم بواسطة الجيش. إذ لا يمكن وصف هذا الجيش بمفاهيم معهودة كأن نقول بأنه جيش نظامي دائم ، وجهاز لدولة وجدت قبله ، ينفذ سياستها التوسعية. لقد تعلق الأمر بعناصر قبلية كاملة ، هاجرت بأسلحتها ، وأمتعتها ونسائها وأطفالها وكان لها حرية الاختيار ومعنى التملك وشخصية خاصة. ولم تقم الدولة إلا بتنظيم هؤلاء ، فعرضت عليهم بناء المستقبل. ولماذا تعتبر الكوفة معسكرا ، حتى في فجر إنشائها بالذات ، وحتى قبل الشروع في التخطيط ، في حين يقصد بالمعسكر الهيكل العسكري المتحصن المتأهب للدفاع ، وفي حين يخضع العراق كل الخضوع منذ ما يزيد عن سنة ، ويقيم العرب في الأثناء بالمدائن التي لم تكن معسكرا في شيء ، مع أنها كانت أقرب كثيرا من قواعد العدو ، أي التراب الإيراني ذاته؟ حقّا لم ينو عمر تسريح المقاتلين العرب ، بل بالعكس كان يريد المحافظة على هذه القوة الضاربة لاستبقاء العراق وإنهاء فتح الشام في آن واحد. لكن سنة ١٧ ه كانت بالأحرى سنة الانفراج ، وتنظيم المكاسب ، وإقامة هياكل المستقبل ، ولم تكن سنة تجميع القوات العسكرية استعدادا لعملية معينة. لم يكن الوضع ينبىء بالخطر. وكان المقاتلة العرب ينتشون بنصرهم دون أن يسرحوا ، وهم في راحة أو يكادون. إنّما همّهم الوحيد أن يجدوا موطنا للاستقرار و «دارا للهجرة» ووطنا ، ويحققوا حلمهم في الاستقرار ، بمعنى أن يعودوا إلى الحياة المدنية. إلا أن الخيار العسكري بقي قائما ، كما تمّت المحافظة ، دون شك ، على العادات المكتسبة منذ وقت قريب في التنظيم العسكري الذي يشكل إطارا تنضبط داخله جموع المقاتلين ، ولذا فمن المعقول تصور وجود كوفة أولية ـ الكوفة خلال الشهور التي سبقت التخطيط ـ تنشأ طبق مقاييس تتقاسمها
__________________
(١) قبل أن يظهر التفكير التمديني الحديث بكثير ، وحتى قبل وليام مارسي ، انتشرت فكرة المعسكر في الفكر الاستشراقي : وقد جزم بذلك كايتاني ، Caetani ,Annali ,III ,٢ ,p.٣٤٨ , ، مؤكدا الأمر ومعتمدا ما جاء به Mu ? ller في الصفحة ذاتها ، وهو الذي عرّف الكوفة كمعسكر كبير تحول بعد ذلك إلى مدينة ، وجيش الكوفة كجيش مؤلف من الاحتياطيين (Reserveheer).