هذا الخليفة على بناء سور بالكوفة في سنة ١٥٥ ه / ٧٦٢ ، أحاط هذا الحزام بالمركز وبجانب كبير من مساحة السكن ، فشكل بذلك «مدينة» من النمط الإسلامي ، بمعنى مدينة تامة لا تتميز إلا عن أرباضها. إن ما تبقّى بالكوفة من تقاليد آشورية (١) ، نقلتها بابل الجديدة ، يتمثل بالخصوص في تجاوز المعبد والقصر الملتحمين هنا في وحدة أو تكاد ، أكثر مما كان في بابل ، لكن المحتفظين معا بفردية خاصة بكل منهما. ومن جهة أخرى ، تحدد موقع هذه المساحة العمومية في المركز الهندسي دائما ، بالكوفة أولا ثم في كل مدينة إسلامية بعد ذلك. قد يقع أن القصر ينفصل عنها ، ويقام بالحوائط ويسمى بالقصبة أو القلعة (٢) ، لكن لم ينفصل أبدا لا الجامع ولا الأسواق. وأحسن من ذلك : إن الجوار العضوي للمسجد والأسواق المسقفة المتخصصة ، وموقعهما المركزي هو ما سيتبقى من مفهوم المساحة العمومية كالسمة الأكثر خصوصية للمدينة الاسلامية ، حين سيشتد عودها في العصر الكلاسيكي. بل إن هذه السوق المركزية المتضخمة ابتكار إسلامي ، إذ ثبت أن السوق في بلاد الرافدين كانت أهميتها محدودة باستمرار ، فضلا عن أنها كثيرا ما كانت مندمجة بالمعبد (٣).
النقطة الثانية الواجب توضيحها تتعلق بالسكك : يضع المؤلفون في أكثر الأحوال مقارنات بين المظهر الملتوي للمدينة الإسلامية المتأخرة ، وبين الأزقة ، والسكك المسدودة في مدن بلاد الرافدين (٤). لكن يبدو جليا وبعد إمعان النظر في واقع الأمور ، أن السكك الكبرى في المدينة الشرقية القديمة «كانت تنزع إلى اكتساب عرض منتظم والتلاقي على زاوية قائمة تقريبا» ، كما يقرّره أوپنهايم (٥) ، وذلك بالرغم من وجود الأزقة المسدودة. وخلافا للرأي الشائع ، يبدو أن انتظام شبكة الطرقات في أور كما في بابل يفوق إلى حد بعيد المنعرجات الموجودة فيهما لكن هذين الصنفين من السكك متواجدان. وهذه مشابهة أخرى مع الكوفة في أول عصرها كما هي مع بغداد الأولى. ولعله ينبغي البحث عن تسلسل ما ، على مستوى بنية الدار بالذات ، هذه الدار المطبوعة هنا وهناك بتفتحها على الوسط ، رغم أننا نجهل كل شيء عن الدور الأولى بالكوفة.
__________________
(١) لعلّه يحسن أن نوجه نظرنا بتمعّن أكثر إلى أعلى بلاد الرافدين والشام وآسيا الصغرى وخاصة هاترا في عصر البارث التي كانت مستديرة لا محالة ، لكن تضمّنت مدينة داخلية مربعة الشكل :.Oppenheim ,p.٦٤١.
(٢) حيث نجد رجوعا إلى النمط الآشوري.
(٣) حتى فيرث قبل بذلك :.Wirth ,» Orientalische Stadt «,pp.٣٨ ـ ٩٨ وتدل كلمة «سكّو» في الأكادية على السكة والشارع. راجع : سعيد الأفغاني ، أسواق العرب ... بيروت ١٩٧٤ ، في موضوع تقاليد الأسواق عند العرب.
(٤) منذ أن ظهر كتاب وولي :.Excavations at Ur
(٥).Oppenheim ,p.٩٤١ لكنه قبل أيضا بفكرة «التواء السكك والأزقة» :.Ibid.,pp.٣٥١ ـ ٤٥١