وبذلك نرى وجوب الحذر في معالجة مسألة الجذور الشرقية للكوفة بالخصوص ، والمدينة الإسلامية عموما. ليس أمرا واضحا كل الوضوح أن أحسن كيفية لمقاربة المدينة الشرقية تخيلا ، أن تعرض على النظر المدينة الإسلامية المتأخرة ، سوى بنوع ما من الحدس يكون له مثل التلاشي والعناد الموجودين في شذى البخور السومري ، بل أحرى بنا أن نستعرض مدينة القرن الأول أو الثاني الهجري ـ كالكوفة والبصرة وبغداد وسامراء ـ التي زالت زوال سابقتها الشرقية واقتربت منها بما يستبعد أكثر وينتظر أقل. اقتربت منها باعتماد جديد لتقاليد الهوامش الحضارية المتأخرة زمنيا ـ تقاليد آشورية وبارثية ـ وبفكرة تخطيط المدينة ذاتها ، وبمواد البناء ، والطابع الهندسي للطرق ، ومفهوم المركز السياسي الديني ، أكثر مما يكون باعتماد الأزقة والسكك الملتوية أو سياج الدار. وعلى كل فلن يكون ذلك عن طريق جماهير الأسواق الملونة. إن الاستمرارية التي تربط الشرق بالإسلام ، لم تكن مقصودة لذاتها أو واعية. كانت استمرارية في الأشكال والتقنيات والتصورات. ومن المفارقة أنها فرضت نفسها على مشروع قطيعة تامة مع الماضي : استمرارية مستميتة تنبض بإصرار على امتداد آلاف السنين من الحضارة. حضارة جرت آثارها من الجنوب إلى المركز ، ثم نحو الشمال. وعادت إلى المركز ، ثم تحولت إلى الشرق. ولم تقدر على محوها ألف سنة من الذل. لقد عرف العرب الفرس ، واحترموهم ، وحاكوهم ، لكنهم تجاهلوا الشرق القديم حقا ، ومحوا منه كلّ أثر للضمير التاريخي. على أن الشرق في شكل متنكر ومتغير ، مكتسبا لمضامين جديدة ، حاضر في العمل الحضاري الخفي الذي قام عليه الإسلام ، هو حاضر في مخطط الكوفة ، وفي الاعتقاد في قوة النص المدون ، وفي تقاليد الكتّاب والعلماء ، وفي تشعبات الفقه ، وفي المدونات الكبرى للحديث ، في مذهب التصوف كما في التشيع. إنه مثال عجيب على امتصاص بعيد عن كل تطابق لن نقف أبدا على سر مساره. ما أبعدنا ههنا عن مجرد تنزيل الإسلام منزلة الشرق.
تأثير الهلّينية
لقد أحكمت الممالك الهلينستية سيطرتها على ميدان سوف يكون بعد ذلك مرتعا للفتح العربي ـ باستثناء الأناضول. احتل السلوقيون بالخصوص موقعا مركزيا في الشرق ، فكانت امبراطوريتهم تشمل ، في بداية الأمر ، الشام وبلاد الرافدين وإيران كلها ، ثمّ تراجعوا أمام النهضة الإيرانية التي جسدها البارثيون ، لكنهم تمكنوا من الاحتفاظ بميديا وخوزستان وبلاد فارس ذاتها ، فضلا عن بلاد الرافدين (١). ولا منازع أن قلب
__________________
(١) Rostovtzeff, I, pp. ٩٢٤ ـ ٠٣٤; The Cambridge Ancient History, VII, pp. ٧٥١ ـ ٩٥١; A. H. M. Jones, The Greek City from Alexander to Justinian, Oxford, ٠٤٩١, pp. ٠٣ ـ ٦٣.