الشام ، خلافا لليونان ، فضلا عن أنه لم يكن لهم نموذج طبوغرافي أو مؤسساتي مسبق للحياة الحضرية.
فآل الأمر إلى تعايش غريب جدا بين المدينة والقبيلة التي كانت نابضة بالحياة عند العرب بينما لم تكن سوى أمر مفتعل وربما أثر عند اليونان. لماذا وفق الإسلام حيث فشلت الهلينية؟ لأنه جمع بين المبدأ الديني الذي لا يمّحي وبين الهوية الثقافية المتينة ، والتنظيم العسكري الجيد ، ولأنه حافظ على هذه العناصر الثلاثة في أمصاره القليلة. وخلافا لذلك ، فقد كان مستعدا لتقبل سلسلة النماذج الحضارية المودعة في الشرق بشكل انتقائي ، بما فيها الهلينية. وتم العمل بهذه الانتقائية في تخطيط الكوفة. لكن الإسلام وجد أخيرا الأسلوب اللائق به بعد قرن من ذلك. إن العرب الذين أتوا مع سعد لم يكونوا يمتلكون المخطط الجاهز لهيبوداموس الذي أبدع في ميلي Milet ، مع أنه في الحقيقة يعود إلى زمن غابر (١) ، إذ كان ابتكارا للهلّينية الأيونية وليست الأتّيكية ، وقد نشره خلفاء الإسكندر. ولعلهم اطلعوا على ما تبقى من المخطط المشبّك بسلوقية ـ بهرسير وحتى في بابل ، أو في السوس بالنسبة لأهل البصرة. ولنا أن نوضح القول أكثر من ذلك ونتساءل إلى أي حد يندمج مخطط هيبوداموس في الثقافات ـ بالمعنى الأنثروبولوجي ـ الشرقية ، بما فيها ثقافات مشارف بلاد العرب (٢)؟ ولذا يجدر بنا التساؤل عن إمكانية غامضة تتمثل في الأصل الهليني للشوارع الكبرى بالكوفة. حيث إذا رضينا بالتأويل الثاني لرواية سيف ـ أي أن الشوارع الرئيسة كانت تقطعها شوارع ثانوية قطعا عموديا ـ نكون قد وقعنا قطعا على تخطيط هيأته رقعة أو شبكة. ومهما كان الأمر ، وفيما يخص مساحة السكن فلا يتعارض النموذج الشرقي والنموذج الهليني ، بل إنهما يتشابهان كما رأينا ذلك ، ولعلهما يمتزجان في رؤية واحدة للمجال هيأها المخططون طبق حاجات التنظيم العشائري العربي أو تنظيم المعسكر. فأدى ذلك إلى تصفيفات وشرائط متمددة. أما عن المركز المقتبس من الأسلوب البابلي الجديد والآشوري ،
__________________
(١) History of Mankind ,II ,١ ,p.٦٧١ ؛ ناقش أوبنهايم تأثير «الأورارتو» على المخطط المشبك : op.cit.,.pp.٠٥١ ـ ١٥١
(٢) تسرب التأثير الهلينستي وصبغته الرومانية إلى امبراطورية البارث وبقيا في الامبراطورية الساسانية : راجع في خصوص بلاد ما بين النهرين : Oppenheim ,p.١٥١ ؛ وقد وافقت بيغولفسكايا (Pigulevskaja ,p.٤٨) على أن «دخول اللغة اليونانية والتقاليد الهلينية إلى المدن الشرقية كان عميقا». انظر أيضا : Ghirshman, L\'Iran des origines a ? L\'Islam, pp. ٨٧٢, ٩٠٣ ، وانظر خاصة :(Univers des Formes ,III) Parthes et Sassanides وقد أثارD.Schlumberger النقاس حول هذا الرأي معتبرا أن الفن الساساني تحرر من الهلينية وقام في جملته على العودة إلى المصادر الأخمينية والشرقية ، رغم قبوله بوجود الطابع الهليني في فن البارث. راجع» Sur l\'origine et sur la nature de l\'art des Sassanides «في : VIIIe Congre ? s International d\'Ar ـ. che ? ologie classique, pp. ٧٦٥ ـ ٧٧٥