تمتعت الظاهرة المدنية بأقدمية محترمة في بلاد العرب بأنواعها ، ولا سيما في القطبين القصيين نعني الشام واليمن ، فإنها تعود في جملتها إلى القرن الخامس قبل الميلاد (١) ، إلا أنها ظاهرة ثانوية بالنظر للترحل. وهو يظهر على كل بمثابة بروز متأخر بالنظر لكبريات حضارات الشرق والبحر المتوسط التي كانت تحد عالمه. هذا وأن الترحل نفسه لا يمكن وصفه بالمقابل المطلق لحياة الاستقرار والمدينة ، لأنه استكمل نظامه بمرور الزمان ولأن القبائل كانت متموضعة موطّنة (٢).
بعد رفع هذا اللبس يعود بنا السؤال إلى الإشكال نفسه دائما : إلى أي حد كانت مدن بلاد العرب مدنا حقيقية؟ ما هي مقومات تحديد التمدن عند العرب؟ ما هو حضور المدينة ووزنها في الوجود التاريخي العربي؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة يتضمن وجوبا بعدي المكان والزمان ، أي أن يؤخذ بعين الاعتبار تحديد المواضع كما في مختلف العصور التاريخية. لقد عرف عالم بلاد العرب من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرنين الثالث والرابع بعده ، عرف تمدنا ممتازا بقطبيه الشمالي والجنوبي ، أي الشام واليمن ، تتخللهما بالوسط بلاد العرب الصحراوية. لقد عاش وسط بلاد العرب من القرن الرابع إلى القرن السادس ، نموا شاملا بالمعنى الواسع ، وتهيكل ونظّم قدراته البشرية ، وحدد لنفسه لغة وثقافة وهوية وأفرز مدنا خاصة به فيما كانت مدن الشمال والجنوب تندثر أو تترك مكانها لنوع آخر من المدن حيث حدثت انهيارات وكذلك تحولات وتنقلات وإنشاءات. كانت هناك في المرحلة الأولى مأرب وصرواح وقرنو (تعرف اليوم بمعين) ونشان (تعرف اليوم بالسوداء) وتمنع وظفار وشبوه جنوبا (٣) ، وتيماء وديدان وبصرى والبتراء وتدمر والحجر شمالا. أما في المرحلة الثانية فهناك مكة والطائف ويثرب (٤) والفاو (٥) والقطيف (٦) ، لكن أيضا صنعاء (٧) ونجران وعدن ،
__________________
(١) C. Robin,» La Civilisation de L\'Arabie me ? ridionale avant L\'Islam «, in Arabie du Sud, I, pp. ٨٠٢ ـ ٠١٢; G. Garbini,» L\'art et la pense ? e chez les anciens ye ? me ? nites «, ibid., p. ٨٢٢,; Ran Zadok, art. cit., p. ٠٥; M. Rodinson, Mahomet, p. ٦٤.
(٢) راجع البكري ، معجم ما استعجم ، ج ١ ، بخصوص مواطن القبائل.
(٣) C.Robin ,art.cit.,pp.٨٠٢ ـ ٢١٢.
(٤) تأكد ذكر يثرب في كتابة مسمارية تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد (يثرب) ، لكنها لم تقم بدور تاريخي إلا في نسق المرحلة الثانية ...
(٥) عبد الرحمن الأنصاري ، قرية الفاو ، الرياض ، ١٩٨٢.
(٦) في البحرين غير بعيد من الدارين. وهجر : الطبري ج ٣ ، ص ٣٠٤ : ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ ، وفيه ما يدعو إلى التفكير أن القطيف لم تصبح مدينة إلا في عصر متأخر لكنها كانت إقليما أصلا. ولعلها تقهقرت في الواقع في العصر الإسلامي ، بسبب ارتداد قسم من بكر ثم عادت إلى البروز في عصر متأخر جدا. وكانت لها صلات وثيقة بالحيرة.
(٧) أنشأ السبئيون صنعاء في القرن الأول ق. م. وكانت عاصمتهم الثانية : راجع.C.Robin ,art.cit.,p.٢١٢