وكذلك الجابية والحيرة. لقد وافق التطور التاريخي ، إلى حد بعيد ، انتقال مراكز الثقل إلى مجال مغاير ثقافيا ، لكن المناطق الحضارية العربية القديمة كانت تحافظ على حضور ما وهيبة ما. ولا يسع أي إنسان أن يقول إن مكة كانت تتفوق على الحيرة أو صنعاء ، حين شرع النبي في نشر رسالته ، فمن وجهة نظر صرف للحضارة المدنية ، كان هناك تفوق واضح للحيرة. على أن مكة تقمصت مبادىء الجدة والقوة التاريخية والروحية ، وكانت تساهم في حركية دفينة وتختزن سرا عظمة مصيرها.
إن هذه المجالات المختلفة ، وهذه الزمنية المتنوعة لا تطمس إطلاقا الوحدة ولا الاستمرارية. لقد تأثر اليمن بالشام ، إذ كانت علائقه التجارية بالشام عميقة مستمرة (١) وقد استمد من العالم الشامي وبلاد ما بين النهرين تصوراته المدنية والحضارية ، ولوّنها بعبقريته الخاصة. وكانت القوافل تعبر بلاد العرب على كامل امتدادها ، لربط الصلة بأقصى قطبين لها ، متجاوزة منطقتها الصحراوية ، ومحافظة على معنى تضامنها أو على واقعه بالأحرى. لقد ربّى اليمن نفسه وأدمج في حضارته المدنية كثيرا من العرب الرحل (٢) وأعادهم إلى الشام حين بدأت تظهر بوادر التقهقر. وقد اعتمد الغساسنة ومناذرة الحيرة النموذج اليمني الأصلي لتشييد شكل عربي من المدينة ـ الدولة. ويظهر خيط الاستمرار بصورة أكثر دقة في كل ما بثه اليمنيون جنوبا والثموديون والنبطيون واللحيانيون شمالا ، في وسط بلاد العرب ، من تصورات ثقافية وعلى رأسها شكل التمدن وفكرته ، والحس التجاري وحتى الآلهة (٣) ، وفي بعض الأحيان بمسافة زمنية تقدر بالألف سنة. إن وحدة عالم بلاد العرب من حيث المكان والزمان ، تظهر في ذلك النزوع إلى عدم قبول التيارات الحضارية إلا عبر رشح ذوي القربى مهما كانوا بعيدين مكانيا. أما في التقليد التاريخي فإن المرجع ينصب على مجال الدول والمدن والحضارة في قطبي الشام العربي (٤) واليمن. وجاء في الحديث أن بعضا من أبناء سبأ ، معتبرا كجدّ ، قد «تشاءموا» وغيرهم قد «تيامنوا» (٥) ،
__________________
ولكنها لم تصبح المدينة المهمة باليمن إلا في عصر متأخر ، أي في القرن السادس.
(١) C.Garbini ,art.cit.,pp.٩٢٢ ff.
(٢) الأدبيات وفيرة في خصوص هجرات عرب اليمن إلى الشمال. لكن الملاحظ أن ابن حزم جعل مجموع العرب ينحدرون من أجداد ثلاثة ، هم عدنان وقحطان وقضاعة ، مؤكدا أنه لا توجد صلة بين بلاد قضاعة واليمن : الجمهرة ، ص ٧ ـ ٨.
(٣) يبدو أن عمرو بن لحيّ قام بدور الوسيط في هذا المجال وجلب من الشام الإله هبل وجلب الأصنام من عند عمالقة البلقاء : السيرة ، ص ٥١.
(٤) وهو ليس الشام المركزي بل الحواشي الصحراوية.
(٥) الرازي ، مرجع مذكور ، ص ٤٩٩.