الكوفة ، إلا اندراجا قليلا في خط يثرب الجاهلية ، التي كانت عبارة عن سلسلة من الواحات المبعثرة. بل يندرج أساسا في عمل الرسول ذاته ، المؤسس لدلالات حاسمة ولأعمق رمزية للمدينة المسلمة التي جعل منها هيكلا إسلاميا مؤسّساتيا لا مدينة فحسب ، بل مدينة بالمعنى السياسي. (Politeia)
وإتماما لهذا التصور ، يحسن بنا الإشارة إلى أن أسواق «المدينة» التي نقلها الرسول ونظمها ، كانت هي النموذج لأسواق الكوفة ، وليس الأسواق المحيطة بمكة التي كانت بمثابة معارض. ويصعب في هذا المقام تقييم العمل التجديدي الذي قام به الرسول : فلعل نقل سوق بني قينقاع (١) قد جرى في اتجاه المركزية ، لكن الأرجح هو وجود عزيمة تنظيمية ستبقى فيما بعد ، وقد ظهرت في مأسسة سوق يثرب القديم (٢). والملاحظ أيضا وجود تعددية الأسواق (٣) بيثرب وهي ظاهرة ستبقى في أية مدينة إسلامية ، ووجود تقليد واضح لعله تأتىّ من الحضور اليهودي بخصوص ظاهرة السوق المدنية كمؤسسة دائمة تغذي الحياة الإنسانية اليومية. صحيح أنه وجدت سوق داخل مكة ، لكن الأمر الأهم هو قيام السوق ـ المعرض خارج مكة والتي لها دور كبير في اقتصاد القوافل العابرة لبلاد العرب. والذي لا يقبل الشك أن الرسول فرّق بوضوح بين التجارة (٤) والصلاة أي بين السوق والمعبد قاطعا بذلك مع تقليد الشرق كله. فضلا عن أن الإسلام مدّن السوق العربية بأن أقامها في قلب المدينة ذاتها ، مع العلم أن السوق المحيطة بالمدينة الجاهلية قد بقيت ، كما سنرى ، بالكناسة في الكوفة وبالمربد في البصرة.
وهكذا نرى كيف أن الحضارة العربية التي شكلت المدينة فيها المحور المشع ، تدين للإرث العربي الخاص الذي توفرت فيه التقاليد المدنية والتراكيب المتينة المقاومة ، مثلما تدين للعمل الخلاق الذي قام به الرسول. هذا العمل النبوي الذي استمد بدوره كثيرا من ثقافته الحيوية ، ثقافة قريش أولا ، وكذلك ثقافة كل الجهات في بلاد العرب. إن القرآن نفسه يشكل الذاكرة الرائعة للأمة العربية. إذ استرد الماضي كله ، ماضي سبأ وماضي الحجر لكنه تجاوزه برؤية كونية وإلهية لتاريخ البشرية.
وهكذا ندرك ظهور إرادة عنيدة في الوجود وجهدا يتجه إلى الحضارة وتيارا توحيديا ،
__________________
(١) وفاء ، ج ٢ ، ص ٧٤٧.
(٢) المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٧٤٧ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٨.
(٣) وفاء ، ج ٢ ، ص ٧٤٧. كانت هناك بطحاء أيضا ، وهي عبارة عن سوق للدواب على شاكلة الكناسة : المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٧٥٤.
(٤) W.Heffening ,art.» tidjara «,E.I. / ١. ، ولعل هذا التمييز يرجع إلى الفرس.