المختار وحتى في عصر لاحق حيث جمع أبو مخنف أخباره من أناس كانوا شهود عيان لم يعيشوا بعد سنة ١٠٠ إلى ١١٠ ه ، ولا يكون هذا التطوّر حتمية دون شك ولا حتى تطورا متوقعا ممكنا طيلة العصر الأموي. فقد بقيت الكوفة مصرا عسكريا فكان لازما تجنيد الرجال وتوجيههم إلى القتال بسرعة. والمؤكد أن نسق السكك المشع من المركز إلى الخارج دام فترة طويلة.
وهكذا يتضح أن الفترة التي اندلعت خلالها ثورة المختار بمراحلها الثلاث كانت غنية بالأخبار المتعلقة بشخصية الكوفة المادية. علما أننا نتعرف بواسطتها على علامات كثيرة ذات دلالة تمكننا من تحديد موقعها. وإذا ما افتقدنا تلك العلامات ، فلا مناص لنا من مواجهة حيرتنا بشأنها ، وهي كبيرة.
لقد اطلعنا على الرواية المتعلقة بالمختار على مستويين : مستوى ساذج ومستوى متعمق. وقد جارينا القصّاص في الحالة الأولى ـ لأنّه قصّاص حقا ـ واكتشفنا الكوفة عبر الأحداث التي خلخلتها والتي رويت مشحونة بحركة البشر واضطرابهم. واعتبر المستوى الثاني معرفتنا للثورات الأخرى وقدرتنا على القيام بمقارنة نقدية بين العلامات الدالة أمرا مفروغا منه. إنما نستهدف من وراء ذلك التعرف على الأماكن قطعا واستعراض تخطيط المدينة بصفة عادية. لكن أيضا ومجاراة لأبي مخنف فإنّنا نبعث للوجود مرة أخرى هذه المدينة بصورة من الصور ، ونعيد تعميرها وإحياءها ، إذ تلك هي الوسيلة الوحيدة لارتياد هيكلها. لم يكن أبو مخنف يريد إخبارنا عن الكوفة بل عن الأشخاص الذين قاموا بدور ما وعن الوقائع التي جرت على مسرحها. صارت الكوفة منمقا (ديكورا) تتجدد فيه القصة نفسها مما جعل الغموض يسود فنعود بصفة شبه مستمرة إلى النقاط الساخنة نفسها في رواياته. هل أراد رسم أشخاصه في إطار غير مميز ، بتدقيقات كافية لتغذية الخيال؟ إنه مشكل كبير مطروح في هذا المجال. لقد اجتهد في تعريف بعض الناس جيّدا ، فاهتم بهم أكثر مما اهتم بالأماكن ، فكان يسمي ويعرّف أقل شخص منهم ، فتبلور لديه ولدى الإخباريين الآخرين عالم البشر ، وعالم العمل والسياسة وعالم الصراع ، أكثر من عالم الأشياء الجامد ، أي عالم الآجر والماء والرمل. لكن هذا العالم كان قائما بذاته وهو يستمد حياته في جوهرها من حياة رجال التاريخ الذين وضعهم أبو مخنف في حد أدنى من الشروط الملموسة كما يفعل كل قصّاص يحترم نفسه. وإذا كان أبو مخنف قصّاصا متفنّنا إلا أنه بقي مؤرخا. فكان علينا المراهنة على جزء صغير من الدقة الطوبوغرافية حتى نتمكن من مزيد من الاحاطة بالموضوع ، والاستمرار في هذه القراءة ومقابلتها بمصادر أخرى. إن أبا مخنف لم يخترع الجبانات أو السكك أو الصحارى أو السبخة ، فقد ورد ذكرها في كتب أخرى. ولسنا