ويشدّ اليوم الثاني انتباهنا لأن الحجاج أمر مواليه المسلّحين بالتحصّن في مدخل السكك. وكذلك فعل أهل الكوفة الذين «وقفوا على أفواه السّكك» (١) ، فكأنما وجدت سكك عمومية أسندت لحرس الوالي وحدهم ولرجاله (المقصودة بالذات سكة البريد التي سيأتي الحديث عنها) ، وسكك للخطط ينبغي للسكان أن يدافعوا عنها : هذا مجرد افتراض جدير بالاعتبار. ثم رتب الحجاج الأمر في اليوم الثالث ، وهو يوم القتال الحقيقي ، بحيث تمركز قادة جيش الكوفة ، لا أهل الشام ، في «أفواه السكك» (٢). ولم ينج الحجاج نفسه من حركة تطويق قام بها شبيب إلا بالاستماتة في الدفاع عن سكة لحام جرير (٣) إما بمساعدة السكان وإما بمساعدة رجاله ، ولا علم لنا بذلك بصفة دقيقة.
اشتد القتال في اليوم الثالث (٤) وقد دار رحاه خارج الكوفة ذاتها ، حيث كانت السكك مسدودة ، فدار في مكان خال يبدأ بالسبخة وينتهي بالجسر. ونحن ندرك حدوده نوعا ما بالمقارنة بين هذه العملية وبين ثورة المختار التي رويت بصورة أقل دقة ، إذ أحاطت به علامات كثيرة : القصر بداية ومنه انطلق الحجاج ثم سكة البريد التي مر بها وأخيرا «أعلى السبخة» حيث انتهى به المطاف (٥). وبعد أن تمّ صد الحملات العنيفة التي قام بها شبيب من قبل جيش الشام الذي كان حصنا منيعا قام بالدفاع المستميت فلم تمكن زحزحته عن موقعه ، فضلا عن أن خطب الحجاج بعثت فيه الحماس (٦) ، أمر شبيب جانبا من جيشه باقتحام سكة لحّام جرير ليقطع خط الرجعة على الحجاج (٧) ، لكن ردّ الهجوم. والملاحظ من الآن أن سكة لحام جرير تقع حيث يمكن الوصول إلى سكة البريد بعد المرور بها ، وذلك بالاعتماد على هذه العملية وأيضا من الوجهة الطوبوغرافية ، وحيث يمكن الأخذ بسكة البريد حتى الخروج منها في أعلى السبخة حيث كان الحجاج في بدء القتال. ورأيي أنه ينبغي تعريفها كإحدى السكك المتجهة من الغرب إلى الشرق والمنطلقة من المركز ، وهي تعبر السوق وتقسم الخطط الشرقية وصولا إلى وسط السبخة. إن هذا التفسير تفرضه إعادة قراءة الرواية الخاصة بالمختار إذ ورد فيها ذكر تلك السكة ، كما جاء فيها أن يزيد بن الحارث بن
__________________
(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٦٩.
(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٦٩.
(٣) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠.
(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.
(٥) المرجع نفسه ، ٢٦٩.
(٦) المرجع نفسه ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ كان الحجاج قائدا كبيرا للرجال وقائدا حربيا حقيقيا ، في مثل هذا الموقف المأسوي.
(٧) المرجع نفسه ، ص ٢٧٠.