من البصرة في حين أن أبا مخنف كان من أبناء الكوفة بامتياز. وكان يفصلهما قرن أو يزيد ، لكن عمر بن شبة كان من المعمّرين وهو يعتبر أول المؤرخين للعصر العباسي ومن أجودهم دون شك ، فقد اهتم بالمدن وألف بالخصوص كتابين عن الكوفة (١) استمد منهما الطبري هذا القول على الأرجح. كان بعيدا عن الأحداث قياسا لأبي مخنف ، وأقل دراية منه أيضا ـ في نسق المعاش ـ بأسرار الكوفة القديمة في العصر الأموي لكن لا يمنع ذلك من أنه مصدر جدير بالثقة والمراجعة والنظر والمقابلة بمصدرنا الرئيس.
يضمّ تأليف عمر بن شبة بصفة تراكمية عدة أخبار حاول الطبري تقديمها ضمن رواية مسترسلة متفاوتة التماسك. وقد أورد في عدّة أماكن العناصر الطوبوغرافية البارزة المتمثلة في دار الرزق والسبخة والجسر. فورد خبر أول مقتضب (٢) يصف الخطوط الكبرى لمسيرة الحجاج وقتيبة : باب الفيل ـ وطريق دار السقاية ـ السبخة ، «وبها عسكر شبيب». ولم يذكر سكة البريد أو السكك الأخرى ، أو أنه ذكر القليل عنها لكنه أوحى بوجود طريق كبرى تنطلق من مركّب المسجد والقصر ، وتنفتح على السبخة ، وقد كانت محاذية لدار السقاية التي مر ذكرها (٣). ثم يتوسع مؤلفنا في القول ويدقق ويزداد وضوحا. فقد ذكر أن شبيبا وهو لا يزال على ضفة النهر الثانية وجه أحد ضباطه ليفتش عن مكان يعسكر فيه «على شاطىء الفرات في دار الرزق» (٤) ومنع الرجل من ذلك مرة أولى ، من طرف جنود تمركزوا بأفواه السكك. فوفق في هزمهم. ويبدو أن التحكم في المخارج ـ مخارج الشمال دون شك ـ كان حاجزا للوصول إلى هذه الدار. «ومضى البطين إلى دار الرزق ، وعسكر على شاطىء الفرات وأقبل شبيب فنزل دون الجسر» (٥). المهم في هذه الجملة تحديد موقع دار الرزق على ضفة النهر اليمنى. والأهم من ذلك أن عبارة «شاطىء الفرات» فيما يظهر ، تنطبق خاصة على قسم معين من النهر يقع في شمال الكوفة مباشرة بأعلاها (٦) وهو ما يطابق بنية معينة لسطح النهر تختلف دون أي شك في السبخة. هذا وإن مكان دار الرزق بالنسبة للجسر
__________________
(١) الفهرست ، تحقيق رضا تجدد ، طهران ١٩٧١ ، ص ١٢ ؛ وص ١١٢ ـ ١١٣ من طبعة فلوجل Flu ? gel ، بيروت. ونحن نستغرب نوعا ما أن فؤاد سزكين رتبه ضمن مؤرخي الأقاليم بعنوان «وسط بلاد العرب وجنوبها» مغفلا تماما كتابيه المؤلفين عن الكوفة وتأليفه كتاب التاريخ. انظر : Geschichte des arabischen Schrift ـ. tums, Leyde ٠٦٩١ نقل إلى العربية بعنوان تاريخ التراث العربي ، القاهرة ١٩٧٧ ، ج ١ ، ص ٥٥٥.
(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.
(٣) انظر ما سبق.
(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٤. لم يقل أبو مخنف شيئا عن هذه المرحلة الثالثة من نشاط شبيب.
(٥) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٧٤.
(٦) كثيرا ما تكررت هذه الكلمة لما روى سيف معركة الجسر : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٥٥ ـ ٤٥٧. وأيضا بالنسبة لمعركة البويب ، المرجع نفسه ، ص ٤٧٠.