بقي غير دقيق باستمرار ، لكن يبدو أن هناك تجاورا شبه مباشر. وبما أن الحجاج لم يتحرك ، فقد تحول شبيب إلى السبخة ليعسكر هناك «بين الكوفة والفرات» (١). فلم يبق أدنى شك عند هذا المؤلف بخصوص تحديد الموقع ، خلافا للغموض الذي ساد رواية أبي مخنف ، أي في الشرق تماما ، فتميّزت بوضوح عن دار الرزق والجسر والشاطىء كما أكد ذلك بعد قليل سير الأحداث ، ولا سيما تراجع شبيب (٢).
ولم يشر أبو مخنف في أي مكان من كتابه وضمن هذه المحاولة الثالثة ، إلى دار الرزق ، في حين جعل ابن شبة منها محور محيط المعارك هذه ، وعنصرا مركزيا في كل حال. إنما ينبغي التذكير أن أبا مخنف قدم هذه البناية خلال المرحلة الأولى بأنها المكان الذي اختاره شبيب بالذات ليعسكر فيه ، في حين أنه لم يعبر النهر على الجسر (٣). ولعل الدار قريبة من الجسر أو موجودة في الشمال ـ أي أنها كانت أبعد بناية في الكوفة. ومن الواضح أنها كانت موجودة خارج السبخة ، حتى عند أبي مخنف.
عودة إلى سيف بخصوص دار الرزق
صمتت المصادر حتى ذلك الوقت عن هذه العلامة الأساسية ، على الرغم من كون دار الرزق تقع بمنطقة ساخنة وصاخبة ومشحونة بالتاريخ بصفة خاصة. كانت منطقة تربط الكوفة بالسواد ـ المكان الشديد الحيوية بالنسبة إليها ـ والرئة التي منها يتنفس المصر ، لأن اهراء القمح هذا (٤) لم ينشأ صدفة ، حيث كانت الكوفة تستمد قوتها منه ، والأرجح أن دار الرزق أنشئت منذ ولاية زياد (٥). على أن سيفا روى معركة البويب (سنة ١٣ ه حسب تحقيبه) وأشار إليها صراحة عدة مرات في خبر امتاز بوضوحه ، سواء بالنسبة لدار الرزق أو الكوفة كلها (٦). لقد سبق أن قلنا إن المعركة دارت على موقع الكوفة ذاته : «المشركون بموضع دار الرزق ، والمسلمون بموضع السكون» (٧). ثم دقّق سيف مقاله مرّتين بأن أضاف
__________________
(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٦.
(٢) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٧٦.
(٣) المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٣٦ قال : «وعسكر في دار الرزق».
(٤) انظر بخصوص وظيفتها : Massignon ,op.cit.,p.٨٤ ، وكذلك لا حقا.
(٥) كانت بالفسطاط دار منذ أن تولى عمرو بن العاص : فتوح البلدان ، ص ٢١٦. وقد روى سيف أن دار الرزق بالبصرة موجودة في ٣٦ ه فيما يظهر : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦ وما بعدها. والمرجح أن تحديدها إسقاط ، فقد روى المدائني ، جازما ، أن زيادا هو الذي بنى دار الرزق في البصرة : أنساب الأشراف ، قسم ٤ ، ج ١ ، ص ٢١٤. ولا شك أن الأمر حدث كما ذكر بالنسبة للكوفة.
(٦) الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٦٣ وما بعدها.
(٧) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٤٦٣.