الحنطة والزيوت (١). وفي واسط ، صممت الأسواق بتخصصات متميزة ، مما يفترض أن الوضع كان على ذلك النحو في الكوفة حيث استقر الباعة في أطناف غطتها الحصر وقامت على أوتاد (المرجح أنها كانت من قصب) (٢).
وتندرج بادرة خالد المتمثلة في بناء أسواق الكوفة ، وهي الأولى من نوعها في الإسلام ، تندرج ضمن سياق عظمت خلاله المبادلات ، نعني سياق الازدهار الاقتصادي. لكن هذه البادرة ترتبط كذلك بإرادة البناء والتنظيم. فقد جدد مقصورة المسجد (٣) التي بناها زياد ، وأمر بحفر القنوات منها النهر الجامع ، مواصلا بعمله كله الجهد الهائل الذي شرع فيه الوليد بن عبد الملك الذي مثل تحولا حاسما في الانطلاقة المعمارية الإسلامية. لكن خالدا كان صاحب أعمال ميالا إلى المشاريع النفعية.
كانت المصادر مقتضبة في تدوينها الحدث. قال البلاذري : «وبنى خالد حوانيت أنشأها وجعل سقوفها أزاجا معقودة بالآجر والجصّ» (٤). أما اليعقوبي فإنه قال : «إنه بنى الأسواق وجعل لأهل كل بياعة دارا وطاقا وجعل غلالها للجند» (أي لجيش الشام) (٥). ولم يقل الطبري شيئا عن هذه الأسواق المركزية ، لكنه أشار إشارة خاطفة إلى فكرة اتساعها في الخطط. واستمد ماسينيون نظريته عن مركزية الأسواق منها ، وهو يرى أن أسواق الكوفة «لا شك أنها كانت نماذج لأسواق بغداد» (٦). إنه رأي صائب جدا لا سيما أن الأسواق الأولى في بغداد أقيمت في طاقات مركب الأبواب. وقد أمر أوائل العباسيين ببناء الطاقات بالهاشمية (٧). لكن تهيئة الأماكن في بغداد والكوفة لم تكن متماثلة حيث انتشرت الأسواق في الكوفة على قطعة واحدة في الخلاء ، قريبا من المسجد ، فتمتعت حقا بمركزية كاملة. وهو نموذج افتقدته بغداد وأسواقها إلى حد ما ، في حين أن أسواق الكوفة اكتست طابعا نموذجيا من كافة الوجوه ، وصالحا لكل مدينة إسلامية مقبلة.
الحقيقة أن المصادر تطرح علينا مشاكل. كيف نتمثل الأسواق المبنية؟ هل نتصورها صفوفا من الدكاكين المسقفة على حافة سكك غير مسقّفة ، إذا ما اعتمدنا قول البلاذري
__________________
(١) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٩. روى أن زيادا أمر بتسقيف دكاكين البصرة : المرجع نفسه ، ص ٢٢٠.
(٢) كتاب البلدان ، ص ٣١١ ؛ الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٥٨.
(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٦.
(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤.
(٥) كتاب البلدان ، ص ٣١١.
(٦) Massignon ,op.cit.,p.٩٤.
(٧) الطبري ، ج ١ ، ص ٦١٥ و ٦٣٠.