الأخرى ، ولا حتى جبانة سالم التي تبدو ممثلة حقا تمثيلا استثنائيا للجبانة غير اليمنية ذات الاشعاع الكبير. فضلا عن أن ما يدل على ذلك أن جبانة أثير تسمى كذلك بصحراء أثير ، كما سماها أبو مخنف نفسه (١). ولا يقل دلالة عن هذا الأمر أن جبانة سالم صنفت مع الصحارى ، كما ورد في مصدر انفرد حقا بهذا الخبر وأشار إليها في بيت شعر (٢). ذلك أن مثل هذا التمثل لم يرد أبدا في المصادر التي بين أيدينا ، فيما يخص الجبانات اليمنية الكبرى. فضلا عن أن الكلمتين غير مترادفتين. لقد ميز ماسينيون بين الفكرتين وحمل نفسه على طرح معادلة بالنسبة لسالم وأثير فحسب (٣) ، وهو ما يفسر حيرته كما يفسر إلى أي حد تبقى الجبانة ظاهرة يمنية في صفائها. ولا يعني الصفاء في هذا المجال أن الوظائف كانت بسيطة بل أن الأمر يستدعي على النقيض من ذلك جملة من الدلالات التي لا يمكن أن تحملها إلا مؤسسة متقدمة كانت ثمرة لتجربة تاريخية طويلة.
ـ جبانة عرزم حيث كان يصنع اللبن الرديء (٤) ، كانت تقع دون شك غربا ، في خطط عبس (٥) وقد ورد ذكرها فعلا في رواية أبي مخنف عن ثورة حجر (٥١ ه) (٦). روى أن قافلة الأسرى مرت من هناك وهي في طريقها إلى دمشق وكان لقبيصة بن ضبيعة العبسي دار فيها ـ لم تكن داخل الجبانة دون شك ، بل إلى جانبها ـ وقد توقف فيها ليعلن وصيته الأخيرة. ثم مرت القافلة بالغريّين غربا ، مما يلي النجف ، وتحولت قسرا إلى الشمال ، وجهتها دمشق (٧). يمكن أن نفترض أن هذه الجبانة التي كانت تحمل اسم شخص لا اسم عشيرة أو قبيلة (٨). كانت ملكا لعبس. لكنها لم تقم بأي دور في النزاعات السياسية إذ كانت مضر تجتمع بالكناسة. وبما أنها كانت مقرا لنشاط اقتصادي الطابع ـ يتمثل في صنع اللبن وقولبته ـ فقد أقرها ذلك في وضعية خاصة غير معهودة.
والآن نصل إلى الجبانة أو الجبانتين الأخيرتين اللتين كانتا موجودتين في العصر الأموي ، إذا ما تقرر التطابق بين تسمية الثويّة والجبانة (بدون أية صفة أخرى) ، دلالة على
__________________
(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢١ ؛ كتاب البلدان ، ص ٣١١ ، ولم يصفها اليعقوبي بالصحراء بل أدرجها ضمن الجبانات.
(٢) الطبري ، ج ٧ ، ص ٢٨٢.
(٣) Massignon ,p.٧٤.
(٤) فتوح البلدان ، ص ٢٨١.
(٥) يرى ماسينيون أنها من أقدم الجبانات : op.cit.,p.٦٤.
(٦) الطبري ، ج ٥ ص ٢٧٠.
(٧) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٧١.
(٨) مع أن بني عرزم وجدوا بالبصرة وكانوا مجهولي النسب : كتاب الاشتقاق ، ص ٥٥٣.