وعسكري وسياسي كبير. ولنذكر أن أقدم الجبانات ـ ما عدا الجبانة ـ ملك لقبائل اليمن (١) : السبيع ومراد وكندة والصائديين. وهي أيضا أهمها مع جبانة سلول. والملاحظ أيضا أن تميما وضبة وربيعة لم تكن لها جبانة. ولعل الأحنف دفن بالثوية لهذا السبب ، ولأنه كان شخصية مرموقة. في حين أن طيا وبجيلة المتحالفتين مع خثعم ، كانت لهما جبانة بشر ، وأن بجلة المتصاهرة مع الأزد كانت تستخدم جبانة مخنف لدفن موتاها وتنظيم حياتها الاجتماعية. فكان على بعض القبائل الكبرى كربيعة ومضر التي كانت اقامتها غير قارة نسبيا أن تستخدم أمكنة أخرى للاجتماع أو لدفن الموتى. يقول أبو مخنف : «وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم» (٢).
وها أن خباب بن الأرت وهو من مشاهير الصحابة مات في غياب علي بوقعة صفين ، فدفن بالظهر وهو الحد الذي كان للكوفة مع البادية ، وأضاف أبو مخنف قائلا : «ودفن الناس إلى جنبه».
ماذا يعني بقوله هذا ، لا سيما وأن الدليل متوفر على أن كثيرين منهم استمروا يدفنون في الجبانات؟ (٣). لكن اذا اعتبر بعضهم خبابا حليفا لبني زهرة أي حليفا لقريش ، فقد اعتبر البعض الآخر أنه كان حليفا لتميم مقيما بخطتها في جهارسوج جنيس (٤). من هنا نستخلص أن تميما هي المقصودة بصفة خاصة عند أبي مخنف بقوله هذا الثري بالمعاني على الصعيد الانثروبولوجي. تشمل كلمة «أفنية» قطعا الجبانات لكن أيضا الصحاري وكافة الأراضي الخالية الأخرى الموجودة في الخطط. ولا شك أن الأهالي استمروا في دفن موتاهم في دورهم الخاصة ، وبقيت هذه العادة شائعة في المدن الإسلامية إلى عهد قريب.
وعلى هذا تتمثل الوظيفة الأولى للجبانات في القيام بدور المقابر القبلية كما كان الأمر
__________________
(١) يطالب اليمنيون لأنفسهم بالأسبقية في إنشاء أول جبانة للإسلام في صنعاء كما جاء في كتاب أحمد بن عبد الله الرازي الصنعاني (توفى سنة ٤٦٠ / ١٠٦٨) بعنوان : تاريخ مدينة صنعاء اليمن ، دمشق ، ١٩٧٤ ، ص ٩٠ إلى ٩٢ وص ٢١٦ ـ ٢١٧ وص ٢٢٢. ومن الغريب أن إنشاء هذه الجبانة نسب إلى بادرة قام بها الرسول ، واعتبر في الوقت نفسه أن الفرس هم الذين أنشؤوها ـ بني جريش أو الأبناء ـ ولم تكن مقبرة بل مصلى للعيدين. وهذا يحملنا على الخلوص إلى نتيجة مزدوجة تقول بأن الجبانة منشأة يمنية أضيفت عليها الصفة الإسلامية وأن وظيفة المقبرة بالكوفة فرضت عليها طبق العادات المعمول بها شمالي بلاد العرب مما يفسر وظيفتها الثنائية. وما يلفت النظر أن جبانة صنعاء اليوم هي مصلى في الهواء الطلق ، يستخدم في المناسبات الكبرى ، وليست مقبرة بتاتا.
(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٦١.
(٣) ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٤٤ و ١٦٠ و ٤٠١.
(٤) ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٤.