صرح بذلك سيف وروى عنه الطبري بالنسبة للبصرة في العصر الأولي (١). أما فيما يتعلق بالكوفة ، فقد ورد خبر هام (٢) مفاده ما يلي : «أمر علي الناس أن يخرجوا بسلاحهم فخرجوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم». وكان ذلك سنة ٣٧ ه ، أو ٣٨ ه ، بعد وقعة صفين ولما بلغ خطر الخوارج أشده ، فوبخهم علي لدخولهم المسجد حاملي السلاح ، معتدين بذلك على حرمته ، وأمرهم أن «يذهبوا إلى جبانة مراد» فأطاعوه. فكان علي أول من بادر بجعل الجبانة مكانا لحشد كافة الناس لا قبيلة معينة ، لأن الجبانة كانت أكثر اتساعا ، أو أنها كانت موجودة على طريق حروراء. هكذا وفي مثل هذا الوقت الذي كانت صبغته استعجالية ، استنفر أهل الكوفة لكن لم يعرفوا مكانا يتجمعون فيه داخل مدينتهم لأن الجبانات لم تكن موظفة بعد لمثل هذا الأمر (٣) على ما يبدو. إن عليا هو الذي شرع في إضفاء دور عسكري على الجبانات بنيّة القيام بعمليات داخلية أو لتنظيم تجمعات عاجلة. ذلك أنه لم تظهر أية رواية تتعلق بفترة سابقة باستثناء الرواية الغامضة الخاصة بمقبرة بني حصن في البصرة (٤) والمتعلقة بأحداث جرت سنة ٣٦ ه قبل وقعة الجمل. لقد ارتبطت هذه الظاهرة هنا وهناك بأمر استثنائي غير متوقع ، وبجو الحرب الأهلية. فكان الرجال والقادة يبحثون عن أمكنة داخلية للتجمع : منها المسجد في الكوفة ودار الرزق في البصرة وجبانة مراد ، ومقبرة بني حصن. وارتجلت القرارات انطلاقا من اختيار معقلن قائم على القابلية الطبيعية للجبانات ، لكي تحوي عددا كبيرا من الأشخاص. فقامت منذ ذلك الوقت بدور استراتيجي وأبقت عليه ، وتخصصت حسب القبائل أو مجموعات القبائل وارتبط الأمر دائما بالاضطرابات الداخلية ، بجو الدراما والطوارىء : قضية حجر بن عدي (٥١ ه) ثورة المختار (٦٦ ه) ، انتفاضة الأشراف (٦٦ ه) ، دخول مصعب (٦٧ ه) ، ثورة زيد بن علي (١٢٢ ه). واستخدمت الجبانات في كافة هذه الحالات من قبل القوات الثائرة كما من قبل قوات السلطة الحاكمة (زياد وابن مطيع والمختار نفسه ومصعب). وإن بدا أن الولاة الأمويين عند قيام الثورات فضلوا المسجد مكانا للتجمع ، فذلك لكي يفكوا التعبئة فعلا ، لا لكي يقوموا بها ، بمعنى أن هدفهم كان دفاعيا. في حين كانت الجبانات تستخدم للعمل الهجومي ، أو لرد الهجوم ، وفي الجملة القيام بثورة أو للعمل على مقاومتها. أما عن نقاط تجمع الحشود النظامية (الأرباع) التي تحشدها السلطة وتشرف عليها ، تأهبا للحملات السنوية في اتجاه العالم الايراني ، فقد استمر اختيارها خارج المدينة. ولم تقم فيها الجبانات بأي دور ، حتى ولو
__________________
(١) الطبري ، ج ٣ ، ص ٥٨٦ و ٦٢٣.
(٢) الطبري ، ج ٥ ، ص ٩١.
(٣) المحتمل أيضا أنه كان حشدا لكل القبائل وأن الجبانة كانت ملكا لقبيلة واحدة وهذه حجة لا ينبغي استبعادها.
(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦.