كان للتعبئة الأولية لكل قبيلة على حدة. كان المقاتلة يتحركون فرادى وجماعات وكتلا مضطربة أحيانا ، مرهقة مرهبة (١) في اتجاه السبخة وكانوا كثيرا ما يعبرون الجسر للذهاب إلى حمام أعين وحمام عمر بن سعد وغيرهما. وكان ذلك خارج المدينة طبعا ، دون أن يقع أي تجمع مسبق في الداخل. وعلينا إذن أن نتصور الدور العسكري الاستراتيجي والثوري للجبانات ضمن هذه الحدود وهو الدور الممتلىء حضورا والأساسي جدا في حياة الكوفة : لم يكن دورا عسكريا عاديا متسقا مندمجا في الهياكل القائمة بل كان بالأحرى دورا مرتبطا بالقلاقل الداخلية ، والحروب الأهلية وأوضاع الانقسام والطوارىء. والملاحظة الأخيرة أن الجبانة أحيت القبيلة بصفتها وحدة مقاتلة والروح القبلية الانقسامية. إنها عكس العنصر التجميعي بالنسبة للكيان الاجتماعي.
وتبقى مشكلة السكن في الجبانات قائمة. وقد ارتأى هندزM.Hinds (٢) أن الناس بنوا فيها وسكنوها في فترة مبكرة دون أية حجة بل وصل به الأمر إلى القول بأن المختار اعتمد على أهل الجبانات مما يدلل على سوء فهم كبير للأوضاع بالكوفة. الحقيقة أن المصادر قليلا ما تورد أسماء أشخاص يقطنون في جبانة ما خلال العهد الأموي ، والمقصود هنا هو قرب الجبانة ، والمثال على ذلك هو قبيصة العبسي صاحب حجر بن عدي الذي يقول عنه الطبري (٣) : «فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره وهو في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات» والمرجح إذن أن الجبانات لم تكن طوال القرن الأول لا مبنية ولا مسكونة. لكن لعل الأمور تغيرت مع العهد العباسي لوجود ضغط ديموغرافي ولأن الجبانات فقدت وظائفها العسكرية ـ الثورية المعهودة ، ومن الممكن إذن أن اجتاحتها البناءات خصوصا وهي تقع داخل «المدينة» التي صارت مسورة. ولنا إشارة طارئة على هذا في طبقات ابن سعد (٤) حيث يأتي ذكر محاضر بن مورّع الهمداني وهو من رجال آخر القرن الثاني فيقال عنه : «كان يسكن جبانة كندة».
الصحاري (جمع صحراء) : هل كانت معادلة تماما للجبانات بالنسبة للجماعات غير
__________________
(١) في ولاية الحجاج : الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٠٧.
(٢) M. Hinds,» Ku fan political alignments and their background in the mid ـ seventh century «,. The International Journal of Middle Eastern Studies,) ١٧٩١ (p. ٨٤٣. ربما كانت البنايات قد اجتاحت الجبّانات في العصر العباسي ، نحو نهاية القرن الهجري الثاني. ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٩٨ ، يذكر حالة همداني كان يقيم في جبّانة كندة ؛ بينما لم تذكر في العصر الأموي سوى حالات الأشخاص المقيمين (في) هذه الجبانة أو تلك : مثلا قبيصة العبسي ، من أصحاب حجر ، ورد عند الطّبري ، ج ٥ ، ص ٢٧٠. فضلا عن كون هذه الحالة غامضة.
(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٧٠.
(٤) ابن سعد ، طبقات ، م. ن.