عليه الشعور بقوة الاضطراب العمومي الذي هو اضطراب يتبع الحق العام لكن ارتبط ببداية الاضطراب السياسي. كان الأمر كذلك عندما بدأ الانتفاض على عثمان : فقد بدأت الفوضى تدب وظهرت نزعة مخيفة إلى الإجرام (١). وكان ذلك عبارة عن نوائب من الحمى ، واهتزازات من الضيق لكنه كذلك انخرام طرأ على تكيّف الروح العربية بالمحيط ، بالنظر لضياع الفرد في المدينة التي عمّتها البلبلة ، وأخيرا فهو عنف عادي يفرزه كل تواجد حضري في كل عصر ويحتار منه الناس فتستغله السلطة أو المشوشون في اتجاهات مختلفة. والظاهرة الكبيرة هنا أن زيادا فرض استبدادا شحن بالمخاطر وأوقع بهذا تحولا في تاريخ العراق والإسلام ، وهو أمر شعر به أبو مخنف لوضوحه. فما هو منطلقه؟ كان الأمر عبارة عن معاينة لفوضى عامة عادية يصرح بها زياد بهذه العبارة : «الغارة في النهار والسرق في الليل» (٢).
ويضيف : «وإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه». وأخضع البصرة إلى نظام منع التجول (٣) بصورة مستمرة لا هوادة فيها. كان المقصود من ذلك اتخاذ إجراء لحفظ الأمن اليومي الحيوي ، وهو تنظيم للتعايش الجماعي حتى ولو أخفى هذا الأمر نوايا سياسية دون شك. ذلك أن زيادا نفسه مؤسس الدولة السلطوية وفارض الاستبداد والعسف والممارس للقسوة في الضرب على أيدي الأعداء ، كان أيضا منظما ومربيا. وقد بيّنا أنه جعل من البصرة والكوفة على صعيد التمصير الصرف ، مدينتين حقيقيتين. وإضافة إلى جهده المعماري ، فقد أصدر تدابير كثيرة لفائدة المدينة ، ولا سيما المحافظة على نظافة السكك. فكان السكان ملزمين برفع أكوام الطين بعد نزول الأمطار ، ورفع القمامات من السكك (٤) وبلغ به الأمر في البصرة إلى حد إنشاء مصلحة مختصة لرفع القمامة. والمفروض أنه طبق السياسة نفسها في الكوفة. لقد أشار البلاذري إلى أن المكان الموجود بدار الروميين في المركز ، كان مصبا للزبال (٥) : يعني ذلك أن الناس كانوا يذهبون إليه لصب زبالهم و «الرمل». ثم في عصر يزيد بن عبد الملك ، نظّف هذا المكان وبسط. وقد أشرنا كذلك إلى وضع الكناسة التي كانت مصبا للقمامة ، ثم أصبحت سوقا كبرى للقوافل. وما يستخلص من هذه الأمور أن شاغل نظافة السكك كان موجودا.
__________________
(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٧٩.
(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٧.
(٣) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٧ ؛ الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.
(٤) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٧.
(٥) فتوح البلدان ، ص ٢٨٠.