الواضح أن هذه السكك لم تكن مبلطة بل حافظت على وضعها خلافا لما كان عليه الأمر في مدينة أخرى هي حمص (١). لكن حمص كانت تابعة للمملكة الرومانية البيزنطية التي يعترف كتّاب عرب كالجاحظ بتفوقها على مجال وادي الرافدين ما عدا بغداد التي فاقت في نظره مدن «الشامات» فعلا (٢). ومن المعلوم أن موضوع نظافة السكك والرحاب تدقيقا ، تجسم في بغداد حيث كانت السكك تكنس وتزال أوساخها كل يوم (٣). لكن المحتمل أنها لم تكن مبلطة في بادىء الأمر ، لأن التبليط كان في الحقيقة ابتكارا رومانيا لم يدخل كل مكان.
أشرنا سابقا إلى السور والخندق ولنوجز القول بشأنهما. لقد فرضهما أبو جعفر المنصور على السكان فحمّلهم النفقات سنة ١٥٥ ه عقابا لهم على نزعاتهم المتشيعة لعليّ ، وإحصاء لعددهم ـ كما جاء في الروايات (٤). والواقع أن ما قام به أبو جعفر يعبّر عن ظهور تصور كامل جديد للمدينة. هذا التصور إنما ترمز إليه بغداد تماما ، إذ كان جهازها الأساسي السور ومركبات الأبواب. وهكذا تعود التقاليد البابلية إلى سالف قوتها ، بعد أن اختفت إلى حين. وقد أراد المنصور توسيع هذا التصور إلى عاصمته القديمة حيث ارتجف لفكرة هجمة يقوم بها جيش ابراهيم بن عبد الله العلوي الثائر في البصرة. ليس هناك أي شىء؟؟؟ في أن الجهد التمصيري الذي قام به المنصور في بغداد والكوفة وغيرهما ، قد داخله شاغل الاحتماء من الثورات الداخلية. إنها لمفارقة أنه فكر في الأمر بعد أن استتب النظام. وينبغي أن نضيف لهذه الأسباب سببا آخر هو أن الكوفة لم تعد مصرا للمقاتلة بل أصبحت بلدا تابعا ، ومدينة من مدن الخليفة. فكان السور استجابة «لتمدين» الكوفة تمدينا كاملا شاملا ، وللتحول الطارىء على اتجاهها ، والمسيرة التي قطعتها طيلة قرن ونصف منتقلة من وضع المصر المسلح المهاجم المضطرب المهيمن ، أحد منابع القوة العربية ، إلى وضع مدينة الثقافة والصناعة المنزوعة السلاح والهشة. فكان ينبغي حمايتها من العالم الخارجي.
لعب السور بصورة ملموسة دورا أقل أهمية من الخندق الذي كان قناة حقيقية محصنة ، وكان متضمنا للجسور بأبوابها (٥) ، وكانت الأفلاك والمراكب تعبره. كانت الكوفة في الماضي مدينة مليئة بغبار وبرائحة الصحراء فأضحت مدينة الماء. كانت محاصرة بين النهر والصحراء ، فمالت إلى جهة النهر ، وجلبت مياهه وسيطرت عليه وعبرته وجعلت منه حزاما
__________________
(١) البلاذري في فتوح البلدان ، ص ١٤٠ : «إنها مفروشة بالصخر».
(٢) الخطيب ، في :.Lassner ,p.٦٥
(٣) Ibid.,p.٧٥.
(٤) لم يتحدث البلاذري إلا عن الخندق. انظر : فتوح البلدان ، ص ٢٧٨.
(٥) البراقي ، ص ١٢٠.